الأزمة المالية في ما وراء بعدها المالي

TT

كتبت إحدى الصحف الاسبانية اليمينية معلقة على خطة الرئيس الأمريكي بوش لإنقاذ النظام المالي المنهار في بلاده «البولشفيك يجتاحون وول ستريت»، معتبرة أن ماركس يضحك في قبره وهو يرى أعتى عتاة الرأسمالية، يؤممون المصارف، ويتدخلون بقوة في إدارة عجلة الاقتصاد.

وجاءت المفاجأة الكبرى في الأسبوع ذاته، عندما منحت جائزة نوبل للاقتصادي والمعلق السياسي الأمريكي بول كروغمان، الذي اشتهر بنقده الجذري لتجربة الرئيس بوش التي اعتبر انها تعيد الولايات المتحدة لعهد التمييز الطبقي والغيتوهات المغلقة في مطلع القرن العشرين.

وكروغمان كما هو معروف اقتصادي لامع اشتهر بنظريته في التجارة الدولية، التي انتقد فيها نظرية التوازن التلقائي في التبادل التي تقوم عليها الأطروحة الليبرالية التقليدية، موجها النظر الى بعدي المردودية المتزايدة والتنافس المختل في العلاقات الاقتصادية الدولية.

وبدون الخوض في تفصيلات هذه النظرية التي تهم المختصين وحدهم، نكتفي بالإشارة الى ان أهمية أعمال كروغمان تنبع في ان الرجل، على عكس الاقتصاديين الأمريكيين الكبار، الذين يصدرون في الغالب عن النمذجات الشكلية الرياضية في نظرياتهم، يتبنى التحليل السياسي ـ الاستراتيجي في معالجة الموضوعات الاقتصادية، ويبين ان العولمة ليست ظاهرة مالية أو اقتصادية صرفة، بل هي أيضا ديناميكية جيوسياسية معقدة، تدخلها كل دولة من بوابة مصالحها الحيوية وخياراتها الذاتية.

والتحدي الكبير المطروح اليوم على المنظومة الرأسمالية هو القدرة على العودة للنسق الإنتاجي التقليدي، الذي كان قائما على فائض القيمة المتولد عن العمل ضمن قواعد اللعبة الإنتاجية للمصنع، بعد ان تغيرت طبيعة العمل نفسه وأصبح يطغى عليه العنصر غير المادي، حيث المجتمع كله منتج، وحيث أدوات الإنتاج توسعت لتتركز على الآليات الثقافية والسلوكية (ما أطلق عليه الفيلسوفان الفرنسي ميشال فوكو والايطالي جورجيو اغامبن، عبارة النسق السياسي الحيوي).

أما العودة للسياسة فتبدو في شكل التدخل المباشر والكثيف  لحكومات الدول الصناعية الغربية في الأزمة الحالية، التي لم تتردد في تأميم المصارف وتحمل ديونها، وبدأت بالفعل التفكير في آليات دقيقة ومنتظمة لرقابة السيولة المالية والتحكم فيها. وكما يبين الاقتصادي الفرنسي جاك جنرو فإن دور الدولة مرشح للتزايد، ليس بالعودة لدولة الرفاهية الراعية الموزعة وانما الدولة المخصخصة الخادمة للأسواق التي لا تتردد في التدخل المباشر لحمايتها. انه تدخل بدون أهداف اجتماعية، وإنما لإنقاذ المنظومة الرأسمالية من مأزقها الذاتي.

فالرأسمالية التي قامت في نشأتها على خلفيات أخلاقية مستمدة من المرجعية البروتسانتية (قيم الثقة والتعارف والعمل) لم تعد النظام الذي درسه ماكس فيبر في كتابه المشهور حول «الأخلاقية البروتسانتية وظهور الرأسمالية»، وانتهت الى ماكينة مضاربة كونية، مما يفرض على السلطات العمومية التدخل المباشر لانتشالها من مكر اليد الخفية، التي طالما راهنت على توازناتها التلقائية.

أما الجانب الاستراتيجي، فيبدو في التحول الجلي الذي بدا في الخارطة الجيوسياسية للرأسمالية، التي انتقل قلبها تدريجيا منذ القرن السابع عشر من الحوض المتوسطي الى الشاطئ الأطلسي، ثم من لندن في القرن التاسع عشر الى نيويورك بعد أزمة 1929، وهو مرشح الى الانتقال اليوم حسب الكثير من الباحثين الى المجال الآسيوي، الذي تغلب على الأزمة المالية الطاحنة التي عصفت به في نهاية التسعينيات. وإذا كان البعض يتحدث ببعض التبسيط والتسرع عن عودة الحرب الباردة، اثر تصاعد الخلاف الروسي ـ الأمريكي حول الموضوع الجيورجي، الا ان الحقيقة التي لا مراء فيها هي ان الولايات المتحدة نفسها أصبحت واعية بأن حل الأزمة المالية يقتضي بلورة وتفعيل اطر الشراكة الدولية، التي تنكرت لها في السنوات الأخيرة، ودفعت غاليا ثمن التحرك خارجها.

وبالإضافة الى المعادلة الجديدة في أمريكا الجنوبية التي قامت فيها نماذج جديدة من الأنظمة الشعبوية اليسارية التي تدعي طرح خيار تنموي جديد، وبدأت تشكل نواة تكتل إقليمية مهمة على حدود الولايات المتحدة، فإن التجارب الجديدة في روسيا والصين، حيث قامت رأسماليات قومية خارج القيم الليبرالية، تطرح تحديات جديدة على التفوق الاقتصادي الأمريكي، الذي أعلن نهايته وزير المالية استيفن ستينبورك، ونبهت اليه صحيفة الليبرالية الانغليزية العريقة «ايكونوميست» معترفة بأن عصر التحكم الغربي في الرأسمالية قد ولى.. وذلك هو الدرس العميق من الأزمة المالية الحالية.