شوال 1319هـ الملك عبد العزيز.. والمنهج الذي (لا يشيخ)

TT

قبل أحد عشر عقدا من الزمن، أو قبل 110 سنوات أي في شهر شوال عام 1319هـ، سمّى الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل اللهَ ودخل الرياض وهو يوم وضيء مجيد كان له ما بعده مما يراه الناس اليوم، ويلمسونه ويعيشونه. فما بعد ذلك اليوم هو هذا (المُلك العريض) المديد الذي ينتظم معظم جغرافية جزيرة العرب ـ الطبيعية والبشرية ـ والذي هو ملء السمع والبصر في المنطقة والعالم: لأسباب دينية وسياسية واقتصادية وحضارية.. وليست الموافقة الزمنية المجردة هي التي أوحت بهذا المقال، إذ هي مناسبة (ظرفية) وليست (سببا) موضوعيا.. أما الأسباب الموضوعية فاثنان:

أولا: ان (تجديد الإحساس بالتاريخ، ينبغي أن يكون من أولويات المشتغلين بالفكر والثقافة والمعرفة وهي أولوية تمثل ضلعا أساسيا من أضلاع المركب الزمني الثلاثي (التاريخ والحاضر والمستقبل)، بمعنى: أن ليس هناك أمة حية تعيش في الحاضر وحده، وتتطلع الى المستقبل فحسب: معزولة عن رصيدها التاريخي.. انظروا ـ مثلا ـ إلى الانجليز والألمان والفرنسيين والأمريكان واليابانيين.. هل منهم من يفعل ذلك: من ينفصل عن رصيده التاريخي بحجة العيش في الحاضر أو الاستعداد للمستقبل؟!.. يُضم الى هذا السبب ضمائم ثلاث هي: أ ـ ان ذاكرة الأجيال الجديدة قد زحمت بما يكاد ينسيها تاريخها. ب ـ ان طرائق تدريس التاريخ لم تبلغ مبلغا يمكنها من تجديد إحساس الأجيال بالتاريخ. ج ـ ان من مقدمات وفاة الأمة ـ أي أمة ـ: أن تفقد احساسها بتاريخها ومواريثها، وهو فقدان علته الغيبوبة أو النسيان، ولئلا يقع ذلك: جاء القرآن بما ينشط الذاكرة ويشحذها ويجدد عهدها بالتاريخ والمواريث والنعم:«واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم».. «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون».. «وذكرهم بأيام الله».. ومن أيام الله: أيام النصر.. وأيام التمكين.. وأيام العودة إلى الله بالتوحيد الخالص، وإسلام الوجه له تقدس في علاه.. ومفهوم المخالفة مؤتلق ـ ها هنا ـ، أي أن الذين لا يتذكرون أيام الله: معرضون للخذلان والبوار.. أما السبب الثاني الموضوعي لكتابة هذا المقال، فهو (تجديد الوعي بالمنهج).. لقد تردد كثيرا على ألسنة المؤرخين والكتّاب: ان الملك عبد العزيز دخل الرياض لاستعادة ملك آبائه وأجداده. وهذا مفهوم محدود بالقياس إلى المفهوم الأعظم، والمهمة الكبرى.. نعم، ليس ينكر أن هذا المفهوم يدخل في نطاق سنة (التدافع الكوني والاجتماعي)، بيد أن ما قام به الملك عبد العزيز: أوسع وأعظم.. إنه دخل الرياض وهو يحمل (منهجا فكريا واضحا): ذا أسس راسخة، ومصادر جليّة، ورؤية شاملة، ومقاصد صريحة: لا مكان فيها للظنون والأوهام والتخبطات المحرومة من (الهدي المسبق).

لقد أعلن هذا الرجل الكبير ـ في اللحظات الأولى للتمكين ـ:«ان المُلك لله، ثم لعبد العزيز».. والعبارة قصيرة لغويا، لكنها تلخص المنهج الذي يحمله تلخيصا دقيقا سديدا أمينا.. وقاعدة المنهج ومناط الأمر كله ـ هنا ـ: ان (الله أولا).. قبل شيء آخر.. قبل عبد العزيز نفسه: (الملك لله ثم لعبد العزيز).. وليس يعالن بذلك إلا رجل استمكن التوحيد من قلبه عن علم وبصيرة، بمعنى أنه علم من القرآن: أن ليس شيء قبل الله، ليس في الوجود الأزلي فحسب، بل ليس هناك شيء قبل الله في قلب المؤمن الموحد: في عقيدته ونيته وفعله وقصده.. وأجندة حياته بوجه عام، سواء كانت هذه الحياة على مستوى شخصي، أو على مستوى إدارة دولة.. وبراهين هذه البداية (المنهجية) الموفقة مستفيضة في القرآن:«قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون».. «لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا».. «قل لمن ما في السموات والأرض قل لله».. «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين».

والدليل الحاسم على أن تلك الجملة المختارة الجامعة (الملك لله ثم لعبد العزيز) إنما كانت (بداية منهجية) مبكرة.. الدليل الحاسم على ذلك: ان مسيرة المؤسس الصالح الناجح الفالح اهتدت ـ كلها ـ بالمنهج ذاته: منهج عقيدة التوحيد، وشريعة الإسلام، وما ينبثق منهما من سياسات: تمجد كلمة الله، وترفع شأن الانسان، وتوطد الأمن، وتعمر الأرض وتزّينها، وترعى المصالح أيما رعاية، وتتصل بالأسرة البشرية اتصال احترام وعقل وعزة وتعاون وسلام.

ويتعذر ـ بمقتضى المساحة ـ: استيفاء منهج الملك عبد العزيز كله في هذا المقال، لذا نقدم نماذج ثلاثة من هذا المنهج الذي التزمه المؤسس العظيم من البدء الى المنتهى:

1 ـ منهج الاستقاء من النهر العذب الرائق أو (المرجعية العليا) وهي الكتاب والسنة. فهذا المنهج كان واضحا إلى درجة السطوع في فكر المؤسس.. ومتى حصل ذلك؟. حصل في عصر كان (الاضطراب) الفكري والسياسي والتشريعي هو الغالب والسائد في العالم العربي الإسلامي، وهو اضطراب تبدى ـ مثلا ـ في وضع دساتير استنسخت من الدساتير الغربية التي هي خليط من العلمانية والقومية ونزعات كراهية الدين والنفور منه.

2 ـ منهج (التنوير والترقي)، فلئن تورط مسلمون في الجمود وهم ينادون بالرجوع الى الكتاب والسنة، ولئن اتهم أقوام معادون، الاسلام نفسه بالتخلف والجمود، فإن الملك عبد العزيز كان (رائد تنوير) ـ بالمعنى العلمي والتطبيقي للكلمة ـ، وهو بهذا المسلك أحيا أصلا أو مقصدا اسلاميا كبيرا وهو (مقصد التنوير)، فمن مقاصد الاسلام الكبرى (تنوير) الحياة البشرية بنور العقل، ونور المعرفة، ونور الايمان.. ومنهج التنوير يتطلب ـ بالضرورة ـ مكافحة قوى الجمود والظلام: مكافحتها بالإسلام النور الحق، لا بدعاوى واتجاهات مناوئة للدين لا تزيد قوى الجمود والغلو إلا تشددا، بل تمنحها شرعية وجود وعمل!.. ولقد كافح المؤسس قوى الظلام بنور الإسلام الحق. نعم وكان المؤسس (رائد انفتاح هائل) ـ بالتالي ـ على المعرفة، والعصر، والعالم، ولكنه (رائد بصير للانفتاح) والمعنى المقصود من هذا التعبير هو ان الانفتاح عنده: فتح جميع نوافذ المعرفة الحقة، ونوافذ متطلبات العصر الحقيقية، وليس الانفتاح المقترن بالتسيب والتفريط و(التنازل) عن المبادئ من أجل إرضاء أهواء الآخرين: أباعد كانوا أم أقارب.

3 ـ منهج (التميز بالعزة الايجابية الخارجية)، وهي العزة التي ترفع الرأس والهامة بما في اليد من منهج قويم، وتتعامل مع الآخرين ـ في ضوء هذا المنهج ـ بالأفعال الجيدة، والسلوك الشريف، والندية الواثقة دون أن يخالط ذلك تفاخر ولا مباهاة تستعلي على الغير.. ومن خصائص منهج هذه العزة الإيجابية الخارجية عند المؤسس: الإعراض المستنير عن التبعية والتقليد لأي من الأنظمة السياسية السائدة في فترة التأسيس، سواء كانت هذه الأنظمة اشتراكية أو قومية أو علمانية أو ليبرالية.. وهذا (التحرر) الشريف الحصيف من (ربقة التقليد) مسنود بمنطق عقلاني عظيم وهو: انه ما دام المنهج الذي يأخذ به الملك عبد العزيز يكفل المصالح الوطنية، ويرعى مصالح الآخرين، فإنه من غير العقل: تقليد الآخرين في النظم الاجتماعية والسياسية.. ومن الأمثلة الرامزة إلى هذه العزة ـ في السياسة الخارجية ـ: ان المؤسس اختار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) عنوانا لراية دولته، وهذه العبارة مصارحة بالمنهج الذي اختاره الملك.. ومن ثمار هذه العزة: ان العالم كله قد عرف له ذلك، وأقرّ به، وتعامل معه.. ومن وجوه هذا التعامل: ان عَلَم السعودية لا يُنكّس قط في أي مناسبة من المناسبات التي تنكس فيها أعلام العالم وراياته:«من كان يريد العزة فلله العزة جميعا».

هذه نماذج ثلاثة ـ فحسب ـ من منهج المؤسس الرائد: لم يتسع المجال لمزيد من نظائرها ـ الكثيرة جدا ـ.. وإذ نقطع سياق المقالات عن الأزمة الاقتصادية العالمية لنفرد موضوع اليوم لمنهج الملك عبد العزيز، فإننا لا نبعد عن هذه الأزمة العالمية، فهي أزمة مسبّبة ـ في جوهرها ـ بانحراف شديد في مناهجها الفلسفية والفكرية والتشريعية، بمعنى أنها (أزمة منهجية) في المقام الأول، ولقد (شاخ) ما بني عليها من سياسات اجتماعية واقتصادية، بيد ان منهج الملك الرائد (لا يشيخ) لأنه بني على أسس صحيحة استضاءت بنور الوحي والنبوة، ومن ثم فهي أسس ومصادر متجددة لا شيخوخة فيها، ثابتة لا تبديل لها:«وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم».. ولكي لا تزل قدم أو يزيغ فهم: يتوجب التوكيد على مفاهيم ثلاثة:

أ ـ ان صحة المنهج لا تعني عصمة التطبيق في كل شيء بإطلاق، ولا سيما من بعد، لكن أخطاء التطبيق مقدور على تصحيحها بمعيار المنهج ذاته (والفرق كبير بين من يحافظ على المعيار ومن يحطمه)، فالأول محب للهدى وإن كان مقصرا، أما الثاني فضال عن عمد، ـ كما دعا فوكوياما ـ.

ب ـ إننا لا ندعو الى قفل باب الاجتهاد بعد الملك عبد العزيز، ذلك ان المنهج الذي تبناه المؤسس الرائد يرفض الجمود بحسم، ويدعو ـ بحرارة ـ الاجتهاد والتجديد ـ غير المحدودين ـ في كل ما يتوجب فيه الاجتهاد والتجديد في الفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد وصيغ التطوير العصري المتتابعة.

ج ـ اننا لا نلزم أحدا ـ ولا نستطيع ـ بمنهج المؤسس ـ مع الاقتناع بصحته، ولكن لا نقبل أن يستدرجنا أحد إلى تقليد مناهج أخرى خائبة، ولا أن يعيّرنا بخياراتنا الحرة:

ليت الذي لم يكن بالحق مقتنعا..

يخلي الطريق فلا يؤذي من اقتنعا