يا مرحباً بـ«عهد السفارة السورية» في لبنان

TT

يهلل غالبية المسؤولين اللبنانيين لقبول سوريا افتتاح سفارة لها في لبنان، بعد طول ممانعة. لكن المواطنين اللبنانيين لا يشاركون زعماءهم التفاؤل نفسه، ويسخر بعضهم من هذا التهليل الرسمي بالقول: "كان السوريون يحققون معنا في عنجر، الآن سيقودوننا بكل بساطة إلى سفارتهم في بيروت". وهو كلام يعكس إحساس المواطن بأن سوريا خرجت عام 2005 لتعود اقوى مما كانت عليه، وربما أنها لم تخرج أصلاً، وافتتاح سفارة هو أمر شكلي، يصرّ عليه فريق 14 آذار لكن مضمونه يبقى فارغاً، في ظل موازين قوى لم تعد تسعف الأكثرية. ويتندر أحد الموالين لسوريا بالقول: «لو استجبت لكل المعادين لسوريا الذين باتوا يطلبون مني إعادة وصل ما انقطع بينهم وبين دمشق لاحتجت لشركة نقل». ولا يفعل اللبنانيون جديداً، حين يغيرون ولاءاتهم، ويقلبون معاطفهم، بمجرد ان تهب ريح جديدة على بلادهم، راكبين موجة المنتصرين الجدد. لكن هذا كله يحدث بالتزامن مع الكشف عن الخلية الإرهابية التابعة لتنظيم فتح الإسلام، وتصاعد الكلام على تنامي القاعدة في شمال لبنان، وكلام لوزير الخارجية اللبناني بأن العلاقات مع سوريا بلغت أوجها، وتنسيق أمني بين البلدين لم يعد سراً، وإغلاق لمكتب معارضة سورية في الشمال، ومطاردة معارضين سوريين، وثمة من يتكلم عن اعتقالات بينهم أيضاً.

يتساءل إسلاميون عن سر براعة الأجهزة الأمنية اللبنانية، حين يتعلق الأمر بتفجيرات يرتكبها إسلاميون سواء في عين علق أو مؤخراً في طرابلس، وعجزها عن كشف أي جهة مجرمة أخرى مسؤولة عن اغتيالات هزت البلاد، أم ان الإسلاميين هم وحدهم من يكشف عنهم الغطاء السياسي عند كل مفصل، فيما يتمتع الآخرون بالحصانة؟ وإن كان بعض الإسلاميين يشعرون بالغيظ وبأنهم مستهدفون دون غيرهم، فثمة بعض آخر، يعترف بأن ما يكشف عنه في شمال لبنان، بالغ الخطورة والتعقيد، ويدلل على ان ثمة من يعبث بلبنان متى يريد وكيف يشاء، وإلا فمن أيقظ هذه الفلول من فتح الإسلام بعد سنة ونصف على معركة نهر البارد التي يفترض انه قضي خلالها على رؤوس التنظيم الكبيرة؟ أخبار التحقيقات تدل على ان المتورطين في الخلية الإرهابية المكتشفة هم من صغار السن، وهذا يعني ـ بحسب البعض ـ وجود جهة تحرّك وتستنهض وتستثمر، متى وجدت الوقت ملائماً. ففي لبنان، هناك الجيل الإسلامي الأول، الذي يبلغ اليوم خمسيناته وما فوق، ويقود الحركات الكلاسيكية الأساسية المعروفة والمكشوفة. أما الجيل الثاني، الأقل شهرة، وهؤلاء أصغر قليلاً، ما يزالون في منطقة الظل. فيما نشهد ان العمليات التفجيرية الأخيرة يرتكبها «أشبال» ليسوا معروفين في الأوساط الإسلامية، وليس واضحاً بعد من يحركهم، وكيف نبتوا؟!

الفكر القاعدي موجود في لبنان، والقاعدة تجد لها ملجأ في بلاد الأرز، بعد ترك العراق، والتربة خصبة ومؤاتية، ليس فقط بسبب أجواء الحرية السائدة التي تجتلب أصحاب القصص الغرامية، كما أهل المشاريع التكفيرية الجهادية، وإنما ايضاً بسبب وجود مربعات أمنية وملاجىء آمنة يلوذون إليها كالمخيمات الفلسطينية التي لا تخضع لسلطة الدولة. وهذا كله صحيح، إلا ان المناخ اللبناني الإسلامي العام ليس قاعدياً في هواه، ولا يميل لاستخدام أدوات مثل العمليات الانتحارية والأحزمة الناسفة، التي لم تجد من يتبناها داخلياً، كما هو الحال في العراق. وقد ظهر حزام ناسف في طرابلس حين فجّر احد مقاتلي فتح الإسلام نفسه (ولم يكن لبنانياً)، كي لا يقع في يد الجيش، وبعدها عند مدخل مخيم عين الحلوة على خصر فلسطيني. وها نحن نسمع عن حزام آخر منذ أيام في طرابلس، داخل منزل شقيقة رأس الخلية الإرهابية (لبناني هذه المرة)، وكان سيحدث هزة نفسية كبيرة لو انه استخدم فعلاً.

صحيح ان السلطات اللبنانية تقبض منذ مدة على عنصرين/مفتاحين من فتح الإسلام، وهما المعتقلان ناصر اسماعيل وأبو سليم طه، إلا ان عمل القاعدة، على الخلايا الصغيرة المستقلة، جعل الوصول إلى معلومات تخص القيادات الأساسية بالنسبة للمحققين، امراً شبه مستحيل. لكن التقاط الخيوط الأولى للخلية الإرهابية المكتشفة حديثاً، سيقود منطقياً إلى نتائج مهمة، لا لتفوق الأجهزة الأمنية اللبنانية التي أثبتت فشلها على مدار السنوات الثلاث السابقة، وإنما لقرار إقليمي ودولي يجمع على التخلص من آفة التطرف التي تمركزت شمال لبنان، والأهم من ذلك القرار السوري ـ اللبناني بالتعاون حول هذا الموضوع تحديداً.

ويتخوف لبنانيون من أن يجرّ هذا التعاون المستجد، اتهامات لجهات إسلامية هاجمت سوريا بشدة في السنوات الأخيرة، وأن تنقلب صيحات «نصرة أهل السنة» وبالاً على من حملوا رايتها، وعملوا تحت ظلالها. وتتحدث أطراف إسلامية، لم تركب هذه الموجة، عن تطمينات تردها بأنها لن تمس وأن أي ظلم لن يقع عليها، فيما الإشارات التي تصل لغيرها لا تبدو مطمئنة على الإطلاق.

ولا يساور الكثيرين شك أن حمّى المصالحات الداخلية اللبنانية، والتسويات الإقليمية التي وضعت على نار حامية في غياب الظل الثقيل للمارد الأميركي، لن يترك الخريطة على حالها. وليس ما يحدث في شمال لبنان، هذه الأيام، سوى أحد الفصول المهمة، في تشكيل خارطة نفوذ جديدة في المنطقة، لن تكون سهلة على من عادى أبطالها العائدين. وهذا ما يفسر التكتم الشديد الذي بات يتبعه كثيرون، في بلد الثرثرة فيه هواية كاسحة. فالانحناء أمام العاصفة حكمة يفهمها اللبنانيون، وإن كانت مشكلتهم انهم غالباً ما ينحنون أكثر مما ينبغي حتى تخال، في كل مرة، ان ظهورهم كسرت او تكاد. فيا أهلاً ويا مرحباً بعهد السفارة السورية في لبنان.

[email protected]