كيف أصابت المخاطرة وول ستريت وواشنطن بالعطب؟

TT

وقع كل سماسرة الرهون المحتالين، وأصحاب المصارف الاستثمارية الجشعين، وهيئات التصنيف غير الواعية، والمستثمرين السذج فريسة بين براثن الأزمة المالية، وثمة اتفاق مؤيد من الحزبين بأن المنظمين كانوا على شفا خطر داهم. ومن الصالح لنا جميعًا أن ننادي بآلية واقعية جديدة للمراقبة. ولكن إذا ما كان المنظمون غافلين أو غير واعين لذلك الخطر، فالسؤال هو: لماذا.

وفي حالة كل من فاني ماي، وفريدي ماك، فالإجابة على هذا التساؤل سهلة للغاية: حيث عملت آليات الضغط والتأثير القوية داخل هذين المصرفين على معارضة جميع المحاولات التشريعية للإصلاح. ولكن ماذا عن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ووزارة الخزانة، ولجنة الأسهم والصرف، فتلك الهيئات ليست فوق السياسة، كما أنه مشهود لها بالحرفية والخبرة؟ من المؤكد أنه كان لديها المقدرة والدافع لتفادي كارثة من هذا النوع. إذًا لماذا أخفقوا في ذلك؟

إن المشكلة تكمن في أن وول ستريت والمنظمين اعتمدوا على النماذج الرياضية المعقدة التي أوضحت للمؤسسات المالية مدى الخطورة التي يجابهونها في أي وقت. ومنذ حقبة التسعينات، هيمن على أسلوب إدارة الأزمات في وول ستريت أسلوب ونموذج يُدعى «القيمة عند الخطورة»، ويُعرف بـ (VaR). ويعزو هذا النظام عوامل الخطورة لكل سهم، ثم يعمل بعد ذلك على جمع تلك العوامل عبر السندات المالية ككل، وتحديد تلك المخاطر المضادة. وما يتم تركه بعد ذلك هو «صافي» الخطورة الذي تتم دراسته بعد ذلك في ضوء النماذج التاريخية. ويتوقع هذا النموذج احتمالية قدرها 99% بأن المؤسسات لا يمكنها خسارة أكثر من مبلغ محدد من المال. ومن ثم، تقوم المؤسسات المالية بمقارنة «أسوأ تلك الحالات» مع رأس مالها الفعلي، وإذا ما كان مبلغ رأس المال أكبر، فإنها تطمئن تمام الاطمئنان. كما يطمئن أيضًا المنظمون، الذين يعلمون أن تلك المؤسسات قد استخدمت فعليًا هذا النموذج. وطالما كان رأس المال أكبر من قيمة الخطورة، تشعر المؤسسات المالية بأن أوضاعها سليمة، وأنه ليست هناك أدنى حاجة إلى التحول إلى عملية تنظيمية أخرى.

ومع ذلك، فإن التواري خلف تلك النماذج كان خطأً مهولاَ من الناحية النظرية: حيث يتم تصنيف توقع الخطر بصورة عشوائية، وأن كل حدث لا يمكنه التأثير على الحدث الآخر الذي يليه. وهذا ما يتضح من خلال المقارنة التي تتم باستخدام العملة. فإذا ألقيت بعملة وحصلت في الرمية الأولى على وجه الصورة ثم ألقيت العملة مرة أخرى، فإن وجه الصورة الذي ظهر في المرة الأولى لا يمكنه التأثير على الرمية الثانية سواء كانت وجه الصورة أو الكتابة. وهناك خطأ شائع بأنه يمكنك الحصول على وجه الصورة في الثلاث رميات المتتالية، وأن هناك فرصة للحصول على وجه الكتابة في إحدى المرات الثلاث. وببساطة شديدة، فإن هذا ليس صحيحًا. فكل رمية لديها فرصة تساوي 50:50 في الحصول على وجه الصورة أو الكتابة. وتظهر مثل تلك الأنظمة في المنحنى الذي على شكل جرس، حيث يُظهر أن الأحداث التي شهدناها أخيرًا لا تحتمل من الناحية الإحصائية أن تكون مستحيلة عمليًا. وهذا ما يفسر لماذا تصيب الدهشة الأسواق عندما تتكرر الأحداث مجددًا.

ولكن ماذا إذا كانت الأسواق تعمل بطريقة غير طريقة مقارنة العملة؟ وماذا إذا كانت الخطورة لا يتم تصويرها في شكل منحنى الجرس؟ وماذا إذا أثرت أحداثًا جديدة بشدة على ما حدث بالفعل من قبل؟

إن جميع الأنظمة الطبيعية، والتي صنعها الإنسان، مليئة بالتعقيد وعلى أساسها تؤدي لحظة واحدة إلى إحداث تغيرات في النتيجة الأولية الحادثة في النتائج المختلفة وغير المتوقعة. ويتم الإشارة في بعض الأحيان إلى تلك الأنظمة بأنها «مشوشة»، أو فوضوية، ولكن هذا الاسم يعتبر مغلوطًا، فنظرية التشويش أو الفوضى تسمح بفهم العمليات الديناميكية. كما أن الأنظمة التشويشية أو الفوضوية من الممكن توجيهها إلى نحو السلوك النظامي عبر التأثير على عدد صغير من المتغيرات. ولكن بعيدًا عن أن الفوضى تصنع نوعًا من التعقيد، فمن الصحيح تمامًا أنها دائمًا ما تكون غير متوقعة، كما أنه لا يمكن صياغتها حتى مع أفضل أنواع الحاسبات. وتعتبر أسواق رأس المال مثالاً على مدى تعقد الأنظمة الديناميكية.

ومثل حافة الجبل الممتلئة بالثلج، تتساقط الكرات الثلجية الصغيرة، وعلى أساسها تبدأ كرة عظيمة من الثلج في التكون وبعدها تُدفن قرية كاملة من جراء تلك الكرة الساقطة عليها. فما الذي تسبب في هذه الكارثة؟ لقد ركزت القيمة عند الخطورة على كل كرة صغيرة من الثلج، والسبب الناجم عنها، ومدى تأثيرها. أما الباحث النظري في مجال التعقيد اتجه إلى دراسة الجبل. ويعتبر مثال الثلج خير مثال على مجموعة العلاقات المتبادلة مع بعضها شديدة التعقيد، لذا فمن المستحيل أن تتم صياغة مدى التعقيد. وإذا لم تحدث كرة ثلج صغيرة الانهيار الجليدي، فمن الممكن أن تحدثه الكرة الأخرى، أو التي تليها. ولكن الأمر لا علاقة له بكرات الثلج الصغيرة، ولكن بعدم استقرار النظام. وهذا يفسر سبب قيام الدوريات المتزلجة على الجليد بإلقاء الديناميت أسفل المنحدرات كل يوم قبل أن تنهمر السماء بالأمطار الثلجية، ومن ثم فإنهم يعملون على تعديل النظام قبل أن يصبح غير مستقر.

إن هناك الكثير من المثقفين بين الممارسين لمبدأ القيمة عند الخطر ويفهمون تلك الأحداث المغالى فيها والتي حدثت أكثر من مرة بصورة متكررة أكثر مما توقعته أنظمتهم. لذا يمكنهم تزيين أنظمتهم بـ«احتمالية التوزيع» (أي تزيد المنحنيات عند طرفي منحنى الجرس) ثم تتم صياغة تلك المنحنيات على أحداث تاريخية قاسية مثل تراجع السوق عقب أحداث 11 سبتمبر. لكن الأنظمة المعقدة لا تنظر ولا تقتصر على التجارب التاريخية. وتعتبر الأحداث شديدة الاحتمال، على اختلاف أحجامها، ويتم تحديدها عبر مستوى النظام نفسه فقط. وطالما أننا وازنّا نظامنا بحجم غير مسبوق من قبل، فإنه يتعين علينا توقع كوارث ذات أحجام غير مسبوقة من قبل أيضًا. إننا في غمار كارثة من هذا القبيل، كما أن نظرية التعقيد تشير إلى أنها ستزداد سوءًا.

وبصورة عامة، فإن الأنظمة المالية لديها بعض الخواص الناشئة والتي تعتبر غير واضحة المعالم من حيث مكوناتها الذاتية، والتي بالطبع لم تلقي عملية إدارة الخطورة التقليدية لها بالاً. ولكنها عندما تحدث في الأسواق، فإن الخطورة الكلية تعد أكبر من مجموعة المخاطر الفردية، وتلك هي عملية إدارة رأس المال طويلة الأمد التي لم يتم فهمها في التسعينات، والتي لم يعِها وول ستريت حاليًا. وطالما أن وول ستريت والمنظمين مستمرون في استخدام المثال والنموذج الخاطئين، فليس هناك أمل في أن يقدروا كيف يمكن أن تحدث الأمور الخاطئة. كما توجد حاجة ملحة لفهم واتباع نموذج جديد للخطورة إذا أردنا تفادي الترنح جراء إخفاق جديد لبنك.

* المستشار العام لصندوق تحوط إدارة رأس المال طويل الأمد من عام 1994 ـ 1999. كما عمل في شركة «أومنيس»، ومستشارا لدى «ماكلارين» حول الأمن القومي وأسواق رأس المال

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»