أحداث عكا: نذر الانتفاضة الفلسطينية الثالثة

TT

انفجر الوضع في مدينة عكا مساء يوم عيد الغفران اليهودي (مساء الاربعاء 8/10/2008)، إثر حادث عادي، وهو حادث مرور مواطن عربي بسيارته داخل حي يهودي، الأمر الذي اعتبره البعض تدنيسا متعمدا لقدسية ذلك اليوم. حادث عادي. يمكن التغاضي عنه، أو يمكن الانزعاج منه، أو يمكن حتى استنكاره، ولكن أن يؤدي حادث منعزل كهذا، وبسرعة زمنية قياسية، إلى اشتعال مدينة بأكملها، وإلى البدء بحرق البيوت فيها، وإلى استقدام المتطرفين للمساعدة والمساندة، فإن الوضع يشير إلى أمر أكبر من ذلك بكثير.

إن أحداث عكا ليست أحداث شغب مفاجئ في مدينة صغيرة. إنها إشارة جديدة إلى وضع يزداد تأزما منذ سنوات، ويبرز تأزمه بشكل خاص في ما يسمى بالمدن المختلطة، مثل عكل وحيفا ويافا، أو ما يسمى بمدن الساحل، حيث تتواجد أغلبية يهودية وأقلية عربية، ويسعى يهود متطرفون إلى محاولات إخراج وطرد الفلسطينيين من داخل هذه المدن. وقد أشارت إلى ذلك بوضوح الصحافية (أفيراما غولان) في تحليل نشرته صحيفة «هآرتس» وقالت فيه «المواجهات كانت متوقعة، وتصاعدت هذه المرة أكثر مما كانت عليه في الماضي». وحذرت من أنه «لا ينبغي الاستهتار بالمشاعر المخنوقة». بالمقابل دعا عضو الكنيست (دافيد أزولاي) وهو من حزب «شاس»، ومن سكان الحي الذي وقعت فيه المواجهات، دعا «إلى أن تأخذ الجموع اليهودية القانون بيديها، على غرار المستوطنين في الضفة الغربية». وتكشف مواقف من هذا النوع عن حدة الوضع وخطورته، وعن احتمال تطوره إلى أشكال أخرى من المواجهات.

البعض هنا لا يستبعد، ولا يستغرب، أن تتطور الأمور إلى ما يشبه حربا أهلية، أو إلى نوع من انتفاضة فلسطينية جديدة ضد الاحتلال «الأول»، تنطلق هذه المرة من داخل دولة إسرائيل، وهو أمر له تداعياته على الصعيد الدولي. وإذا كانت الانتفاضتان الفلسطينيتان قد نبعتا من قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن تداعيات احتلال دولة إسرائيل لأراض عربية جديدة بعد حرب العام 1967، فإن انتفاضة فلسطينية من داخل دولة إسرائيل، تنبع من قضايا مختلفة، ومن عوامل داخلية تتعلق بالمساواة وبالتمييز العنصري. ولكن هذا الاختلاف بين دوافع الانتفاضات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين انتفاضة فلسطينية تنبع من داخل دولة إسرائيل، لن يلغي تعاطفا فلسطينيا متصلا، بحيث تتحول الانتفاضة الثالثة الجديدة هذه إلى انتفاضة فلسطينية شاملة، تعمل في كل منطقة بالأساليب التي تناسبها. وإذا حدث أمر من هذا النوع فإن المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية تكون قد انتقلت إلى مرحلة جديدة كليا.

يلقي المحامي الفلسطيني علي حيدر أضواء على أحداث عكا واحتمالات تطورها، فيقول «يجب أن تشكل هذه الأحداث صرخة إنذار، ليس فقط تجاه الحكومة التي يتوجب عليها أن تقوم بمسؤولياتها وأن لا تنحاز للأغلبية (اليهودية) مما سيؤدي إلى قيام حرب أهلية آجلا أم عاجلا، بل هي صرخة إنذار تجاه المجتمع العربي كله (داخل إسرائيل)، من أجل استثمار هذا الحدث وبناء إرادة محلية وقطرية موحدة، قادرة على أن تتعاطى مع التحديات الراهنة والمستقبلية». يستند هذا التوقع الفلسطيني لما هو أسوأ، إلى مواقف إسرائيلية علنية، تظهر في الصحف أو في المواقع الالكترونية، ويقول أحدها «علينا أن نتوحد جميعنا في مقاطعة العرب اقتصاديا في عكا وخارجها، حتى نقضي عليهم اقتصاديا واجتماعيا.. يجب مقاطعة كل عربي (مسلما أم مسيحيا) فهو عربي يحمل ثقافة الانتفاضة».

وما أن انفجرت أحداث عكا، حتى تم ربطها مباشرة بأحداث مدينة الناصرة عام 2000، عندما اندلعت مواجهات بين مواطنين عرب وقوات الشرطة الإسرائيلية أسفرت عن مقتل 13 مواطنا عربيا، وقد ترافقت أحداث عكا مع الذكرى الثامنة لتلك الهبة، كما ترافقت مع الذكرى الخامسة لصدور تقرير لجنة التحقيق الرسمية التي تم تشكيلها في أعقاب تلك الهبة (لجنة أور).

وتعقيبا على هذا الترابط، يوضح المحامي حسن جبارين مدير عام مركز (عدالة) القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، عدة مواقف فلسطينية تستدعي الاهتمام والمراقبة. يقول:

ـ خضنا في السنوات السبع الماضية (أي بعد أحداث الناصرة 2000) نضالا قانونيا وجماهيريا.

ـ نحن دخلنا الآن في مرحلة جديدة مختلفة عن السابق. في السابق كنا نقوم بردود فعل على قرارات صادرة عن السلطات الإسرائيلية، واليوم تتطلب منا هذه المرحلة أن نكون في وضع نبادر فيه إلى خطوات قانونية تدعم العمل الجماهيري.

ويتساءل المحامي حسن جبارين عن البدائل الممكنة وعن المصاعب التي نواجهها فيقول «هل بالإمكان إحضار إسرائيل أمام محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة، مثل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؟ الجواب هو لا. والسبب أن إسرائيل لم توقع على وثيقة روما الخاصة بهذه المحكمة.

ـ «هناك إمكانية أخرى، فنحن بصدد تقديم تقرير إلى مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول المقبل، بخصوص إقفال ملفات التحقيق بأحداث عام 2000. وسيقدم هذا التقرير باسم (لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل)، ما يكسب الموضوع بعدا سياسيا. وتقديم لجنة المتابعة لهذا التقرير يعني أنها تقول لإسرائيل: إننا كجماهير عربية طرف في الصراع، ولذلك نحن نذهب إلى الخارج، وهذا يعني تدويل ملف أحداث العام 2000». ويضيف قائلا: «تقريرنا هذا هو ضد دولة إسرائيل، أي ضد الدولة كدولة، وهذا يشمل مؤسساتها مثل الشرطة ووزارة العدل، ويشمل مسؤوليها مثل المستشار القانوني، وإيهود باراك (رئيس الوزراء) وشلومو بن عامي (وزير الأمن) في ذلك الحين. ونحن نقول من خلال هذا التقرير إننا طرف في مقابل الدولة، وليس جزءا من الدولة، لأننا نتوجه هنا إلى طرف ثالث. وعمليا .. هذه هي الرسالة السياسية، وهذا هو بالذات ما أثار غضب مسؤولين إسرائيليين وجهوا لنا تهمة التطرف.

ثمة بعد آخر لمعاناة الفلسطينيين داخل دولة إسرائيل، ولمواقف التمييز ضدهم، تتمثل في سياسة هدم البيوت العربية. وعن هذه السياسة الإسرائيلية يقول المحامي جبارين: هناك تخوف في منطقة مدن الطيرة والطيبة وكفر قاسم، وفي منطقة المثلث الجنوبي، من موجة إعلان السلطات الإسرائيلية عن بيوت على أنها مهددة بالهدم. لكن هناك لجنة شعبية واستعدادا جماهيريا للتصدي لهذه المخططات، وهذا أمر إيجابي.. لذلك ستواجه إسرائيل صعوبة في تنفيذ هذا المخطط. كذلك هناك قضيتان يوجد صراع يومي عليهما لحسمهما، هما القدس والنقب، فهذان هما الموضوعان اللذان تحاول إسرائيل حسمهما في مجال الأرض، ففي القدس هناك عمليات مصادرة، وفي النقب تحاول الاستيلاء على الأراضي من خلال رفض الاعتراف بالقرى الموجودة منذ العام 1948 وقبل قيام دولة إسرائيل، مما يجعل هذا الملف من أخطر الملفات. وهناك أيضا الملف المفتوح دائما، ملف القرى المهجرة منذ العام 1948، وهي التي تطرح موضوع حق العودة داخل دولة إسرائيل نفسها، وكانت آخر تجلياتها مسيرة العودة في الذكرى الستين للنكبة، والتي توجهت إلى قرية صفورية (8/5/2008)، وهاجمت الشرطة المسيرة في نهايتها بعنف بالغ.

ومن خلال هذه الصورة الأوسع للملفات المتأزمة المفتوحة، تظهر أحداث عكا على حقيقتها، تظهر كجزء من نسيج عربي مأزوم ومضطهد، وتظهر كجزء من خارطة صراع متواصل منذ العام 1948 حتى الآن. وهو يتطور في كل مرة نحو بعد عنفي جديد، يحركه تعنت إسرائيلي رسمي ملحوظ، ونمو لتيارات سياسية متطرفة داخل المجتمع الإسرائيلي. وتتجمع بذلك عناصر الصدام الأوسع، كما تتجمع الغيوم في السماء منبئة بالعاصفة.