الخيار بين الاتفاقية الأمنية وما هو أسوأ

TT

تتزايد فرص التوصل الى صيغة مقبولة للاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة بعد أن وصلت المفاوضات الى نقطة يستعصي معها المضي بمزيد من التساوم، وحيث يبدو أن الطرف الأمريكي قد بلغ عرضه الحدود الدنيا الممكنة، ولكن الأهم من ذلك تبدو «الاطراف» العراقية وقد وصلت الى مرحلة ما عاد ممكنا معها الإبقاء على مواقف ملتبسة او مواربة ورمي الكرة في خارج ملعبها. منذ البداية كان الطرف الامريكي يدرك انه بصدد التعاطي مع عدة أطراف تجمعها الصفة العراقية وتفرقها مخاوفها وشكوكها المتبادلة التي يغدو معها القول بصوت عراقي واحد نوعا من الاحتفاء البروتوكولي المجاني. فحتى ما بدا أنه قبول من الاطراف المختلفة بأن يتولى المالكي ملف التفاوض كان ينطوي في حقيقته على رغبة بعدم تحمل المسؤولية المباشرة عن خيارين أحلاهما مر، اما التوقيع على اتفاقية تنبش في شكلها ان لم يكن بعض محتواها كوامن وعينا المعبأ «بلا وعي» ضد معاهدات مشابهة في تاريخنا الحديث، او مقاومة الضغط الامريكي باتجاه انتاج صبغة «شرعية» تغطي الوجود العسكري الامريكي وبدون تحميل الولايات المتحدة تكلفة التعاطي الدبلوماسي والتساوم مع أطراف اخرى في مجلس الامن للحصول على تفويض أممي جديد، فحتى الرسالة الروسية القائلة بعدم اعتراض روسيا على تمديد الوجود الامريكي والتي فهم منها انها دعوة للعراق لعدم التوقيع على اتفاقية أمنية مع الادارة الامريكية الحالية، كانت رسالة متأخرة فاقمت من الضغط الامريكي الذي يملك اكثر من غيره قدرة على أن يؤثر على مدركات الساسة العراقيين وقواعد اللعبة السياسية الداخلية. المالكي نفسه لم يشأ الظهور بمظهر المفاوض الضعيف، لكنه أيضا تجنب أن يكون ضحية الاتفاقية إذا وقعها ام لم يوقعها وسعى الى تحميل بقية الأطراف مسؤولياتها عبر إصراره الى العودة تكرارا الى المجلس السياسي للأمن الوطني، حيث تتمثل جميع القوى السياسية الرئيسية بل انه نقل هواجسه هذه الى الطرف الأمريكي مدركا ان بعض الاطراف قد تحاول ان تتملص من المسؤولية لاحقا وان تستثمر الاتفاقية في حالة توقيعها او عدم توقيعها في سوق المزايدة السياسية والإعلامية، الامر الذي حدا بالامريكيين الى ابلاغه بأنهم لن يطلبوا توقيعه إلا بعد أن يأتوه بإمضاءات الفرقاء الآخرين.

إن المفاوضات العراقية الامريكية تصلح نموذجا لمنطق التفاوض القائم على قدرة كل طرف على استثمار ظروف اللحظة لاستحصال شروط أفضل. وقد استثمرت الولايات المتحدة تعدد مراكز القوى في العراق وتنوع الطيف السياسي وتباين الهواجس وتبادل الشكوك لخلق وعي مؤداه ان البديل للاتفاقية أسوأ منها بالضرورة. ان لكل طرف عراقي أسبابه التي تدفعه الى قبول هذا الاستنتاج، فالسنة يبدون أقرب الى القبول بالاتفاقية وأقل ميلا الى التنبيش في تفاصيلها بسبب شعورهم ان أي مكتسبات حققوها في العامين الأخيرين وأي استحقاقات يسعون لإنجازها تقترن الى حد كبير بضرورة وجود الطرف الامريكي ككابح لأطراف أخرى قد تميل الى الانقلاب على هذه الاستحقاقات لاحقا (في موضوع التعديلات الدستورية مثلا)، فضلا عن الخوف من ان يؤدي الفراغ الناشئ عن الغياب الامريكي الى مزيد من التقوية لما يعتبرونه نفوذا ايرانيا قويا أصلا، وما قد يقترن بذلك من عودة للنشاط الميليشوي في بعض مناطق بغداد. يضاف الى ذلك حقيقة ان «السنة» وبعد سنوات من هيمنة الخطاب الراديكالي والنهج المسلح عليهم، يشهدون لأول مرة انقساما داخليا بين طرفين (جبهة التوافق ومجموعات الصحوة) لدى كل منهما مبرراته للتقرب من الفاعل الامريكي، في الوقت الذي يخشيان من ان ضعفا في الالتزام الامريكي قد يحيي نشاط القاعدة ويترك ظهور هذه القوى مكشوفة من الجانبين. اما الاكراد فانهم ما زالوا ملتزمين بالحكمة التي توصلوا اليها منذ اقامة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الملاذ الآمن في كردستان العراق؛ وهي ان الحفاظ على مكتسباتهم السابقة لا بد ان يتم عبر التحالف مع القوة العالمية الرئيسية والدخول معها في علاقة تخادم تمثل ضمانا لحماية التجربة الكردستانية من جوار متربص، في الوقت الذي تغذي المخاوف التاريخية المتراكمة من جنوح المركز نحو الاستفراد او التملص عن الالتزامات السابقة رغبة في إبقاء الدور الامريكي ككابح لهذا الجموح. اما الشيعة فان الكثير منهم لاسيما في اوساط الطبقة السياسية المستفيدة من التغيير يدرك ان البديل للاتفاقية قد يكون صداما لا يريدونه مع الولايات المتحدة التي لم تقصر في ارسال اشارات تنمي مثل هذا الخوف ليس فقط عبر ما سيبدو انه تخل عن حماية مشروع الدولة العراقية الجديدة التي ولأول مرة في التاريخ الحديث يلعب الشيعة فيها دورا اساسيا، بل وأيضا عبر إشارات عن امكانية التواطؤ مع عسكريين انقلابيين يعيدون العملية السياسية الى مربعها الاول، وهي عملية لم تخاطر امريكا بدعمها في مواجهة تمرد داخلي وشكوك اقليمية لتقبل لها ان تنتج معادلة ضدية للمصالح الامريكية. ثم وكما هو الحال مع الطرف السني هناك بين الفرقاء الشيعة أكثر من طرف لديه استعداد للقبول بما يضعف من ممانعة الطرف الثاني بل ومن شعوره بجدوى هذه الممانعة.

هذا التنوع في الطيف السياسي العراقي بقدر ما يوفر للطرف الامريكي من مجالات واسعة للمناورة والضغط واللعب على المخاوف المتبادلة التي جعلت منه في كثير من الأحيان الخصم والحكم في الوقت نفسه، هذا التنوع منح العراق بالمقابل فرصة غير مسبوقة في ان لا تحصل هذه الاتفاقية بمنطق استقواء مكون معين على المكونات الاخرى او بتجاهل هواجسها ومخاوفها، وهو وفر للمفاوض العراقي امكانية للضغط كي يستحصل شروطا أفضل متحججا بأهمية أن تحظى الاتفاقية بموافقة البرلمان وان لا تنتج تكتلا يسقطها، خصوصا مع احتمال تبني التيار الصدري بما له من وزن تصويتي للموقف المعارض. وبعد كل شيء، فان الاتفاقية من حيث تضمينها لأفق زمني محدد لانسحاب أمريكي تكون قد ضمنت لكل فريق، بما فيه المعارضون، بعض ما يريد، وستكون قدمت للادارة الامريكية مخرجا لا يشبه الهزيمة وان كان لا يرقى الى ان يكون نصرا.