الأتراك والأكراد .. بين تعقيدات الخيارات والاحتمالات الصعبة

TT

بدأ تسرب عناصر حزب العمال الكردستاني (pkk ) الى الأراضي العراقية المتاخمة للحدود التركية في عام 1982، ونتيجة الضيق التركي من النشاطات وهي في مهدها، وبحكم العلاقات الطبيعية بين بغداد وأنقرة آنذاك، وانشغال الأولى في الحرب مع إيران، أبرم عام 1984، اتفاق بين الطرفين يجيز دخول القوات التركية الى الأراضي العراقية، بعمق ثلاثين كيلومترا وبقوة لا تزيد عن فرقة لمدة (72) ساعة، يجدد سنوياً. وينص الاتفاق على تخويل القوات العراقية مطاردة المسلحين داخل الأراضي التركية وفق التفصيلات ذاتها. وبالفعل نفذت القوات التركية العديد من العمليات ضمن الشريط المحدد، ولم تكن هناك معطيات تتطلب دخولاً عراقياً.

وعلى مدى الثمانينات وما بعدها حتى حرب 2003، لم تقدم بغداد أية مساعدات لحزب العمال الكردستاني، ولم يكن هناك تنسيق استخباري بين الطرفين، وذلك بحكم العلاقات المميزة عن بقية المحيط مع تركيا، وعلى العكس من ذلك كان هناك تنسيق مخابراتي عراقي تركي رفيع.

بحكم قوة أجهزة الأمن التركية، ليس متاحاً لحزب العمال أو غيره أن ينشط على نطاق واسع داخل الأراضي التركية وفي المدن، فلجأ الى تكوين قواعد في المناطق الكردية العراقية. وخلال التسعينات كان هؤلاء المقاتلون يتلقون دعماً من إيران، وفي مرات عدة طلب الإيرانيون من أطراف كردية مساندتهم، إلا أن الظروف الكردية العراقية لم تسمح بمس عصب تركي.

ويتوزع نحو خمسة آلاف مقاتل كردي تركي على منطقتين أساسيتين، الأولى متقدمة وتبدأ من ملتقى الحدود التركية العراقية الإيرانية شرقاً وباتجاه الغرب لأكثر من (100) كيلومتر. أما المنطقة الثانية فتشمل مرتفعات قنديل في العمق على الحدود العراقية الإيرانية، وتفصلها عن المنطقة الأولى قرى كردية عراقية، ومع أن المنطقة الأولى على تماس مباشر بالحدود التركية، فإنها لم تشمل باهتمامات الدولة العراقية في مجال فتح الطرقات وتجهيز مسرح العمليات، لأنها منطقة معزولة وبقيت الى حد ما خارج تأثيرات الحرب مع إيران، لذلك فالحركة القتالية الواسعة تتطلب جهودا تركية استثنائية وعملا هندسيا كبيرا ووقتا طويلا، كما أن زج قوات صغيرة يعتبر مغامرة خاسرة وفق أفضل الاحتمالات.

أما التوغل التركي الى مرتفعات قنديل، فممكن من ناحية الطرقات، إلا أنه يصطدم بمشكلات جدية لمروره في العديد من القصبات والمدن الكردية، التي تدخل ضمن مفهوم المحيط غير الملائم، أو حتى المعادي، فضلا عن تطلب حركة كهذه قوات ضخمة لمسك الخوانق والممرات الجبلية والطرقات، طيلة فترة العملية، التي لا يمكنها تحقيق أهداف مباغتة أو حاسمة خلال فترة قصيرة.

وفي ضوء معطيات كهذه، تصبح الخيارات التركية معقدة، خصوصاً إذا ما ربطت التعقيدات مع احتمالات دخول أكثر من طرف على خط شن عمليات استنزاف، وفقاً لدروس العمليات المسلحة ضد قوات التحالف في العراق، وتركيزا على العبوات الناسفة التي تزرع على الطرقات، ما يجعل الحركة على الطرق غاية في التعقيد ومكلفة بشرياً ومادياً.

وما يتعلق بالموقف الإقليمي المباشر، فإن من الصعب، وربما أكثر توصيفاً، التعويل على التنسيق (الايجابي) القائم حالياً بين تركيا وإيران ضد حزب العمال، ولا بد أن المسؤولين الأتراك يدركون طريقة التفكير الإيراني، فتركيا قوية ومستقرة آخر ما يمكن أن تسلم به القيادات الإيرانية، مما يجعل الثقة تمر في ممرات خطرة ومعقدة خشية النكث بالتعهدات.

أما بغداد، فالافتراضات تشير الى التعاطف مع تركيا، بسبب الممرات الضيقة التي تمر فيها علاقات بغداد مع إقليم كردستان، إلا أن أفق الخيارات المتاحة أمام بغداد لا يبدو واسعاً، فالحكومة المركزية تسعى الى فرض سيطرتها على أوسع أرض عراقية ولا تمتلك القدرة على شن عمليات مشتركة مع القوات التركية ضد مقاتلي حزب العمال. وفي المرة السابقة وقف العراقيون وكثير من العرب ضد التحركات والتهديدات التركية، لكن ليس معلوماً كيف ستكون الحال هذه المرة.

في خضم معطيات معقدة، ومع غياب تام لأية توجهات سياسية تتناغم مع طروحات حزب العمال، سيضطر السياسيون الأتراك، والحزب الحاكم تحديداً، الى الاقتراب أكثر من أي وقت مضى، من تصورات قادة الأركان العامة للجيش والمخابرات، ومن المتوقع أن يتجه الطرفان الى خطوات سياسية أمنية عسكرية متفق عليها، تبدأ بتكثيف الضربات الجوية على مناطق انتشار مقاتلي حزب العمال.

ولما كانت الخيارات التركية محدودة بالطرق المعتادة، فاحتمالات الشد مع الإدارة الكردية تصبح أكثر احتمالا، وما الاتهام الموجه اليها بتسليح حزب العمال، والبيان الذي أشار الى قصف ناري ثقيل من داخل الأراضي العراقية على الموقع الذي هوجم، وقتل فيه خمسة عشر جندياً، إلا دليل على أن الضغط التركي سيكون أكثر قوة مما سبق، لا سيما أن الوضع الأميركي لا يساعد على التفريط بالعلاقات مع تركيا، لأن إقليم كردستان لا يقدم بديلاً عن تركيا للمصالح الأميركية. كما أن العلاقات غير الودية، حالياً، بين الحكومة في بغداد ورئاسة إقليم كردستان والإرهاصات المتعددة، تجعل الموقف العراقي أقل حماساً مما كان في الأزمة التركية الكردية السابقة.

وهكذا تبدو الحال معقدة وخطيرة، في وقت يشهد العالم أسوأ أزمة مالية منذ أكثر من سبعين عاماً، قيدت قدرة أميركا على التدخلات المفتوحة. فترة تتصاعد فيها احتمالات الصدامات الإقليمية والمناطقية، ما يتطلب قراءة الاحتمالات وفق تقييم واقعي.