لماذا سأنتخب أوباما؟

TT

مسألة التصويت في الانتخابات الأميركية هي قرار شخصي صعب، ولطالما صوت مستقلا غير ملتزم بالأحزاب ومنحت صوتي لمن أراه يستحقه في اللحظات الأخيرة، بعد تفكير مضن. بكل صراحة أقول إنني لم أكن في بداية هذه الحملة الانتخابية الرئاسية للوصول للبيت الأبيض متحمسا للمرشح الرئاسي الديمقراطي باراك أوباما، شاب أسمر طموح تخرج من كبريات الجامعات الأميركية وأتقن سياسة المواربة، باختصار شاب أسمر (شاطر)، قابلت مثله أكثر من مرة في أميركا، مع الإشارة إلى أن ليس كل الشطارة فهلوة. السبب الرئيسي لعدم حماستي له أنني لست مقتنعا بسياساته بقوة، وكلنا نعلم أن السياسات لا يرسمها المرشح بقدر ما يرسمها المختفون في الظل من ورائه، ومع ذلك قررت أخيرا أن أصوت لباراك أوباما.

لو انتخب أوباما ستكون لحظة الحسم التي يمكن فيها للمجتمع الأميركي أن يعلن للعالم بأنه مجتمع قد تجاوز شروره وانتقل إلى مجتمع ما بعد العرق (post-racial society)، وأنه ليس مجتمعا عنصريا كما هي الصورة السائدة عنه في الأذهان. حتى هذه اللحظة، لدي شك في فوز أوباما بالرئاسة، فعندما يصل الأمر إلى أن يجلس في البيت الأبيض رئيس أسود، سوف تستيقظ العنصرية المبنية على اللون. ولن يفاجئني أبدا أن يصوت كثير من الأميركيين ضد أوباما للونه فقط، كما سيصوت كثيرون لأوباما للونه فقط أيضا، وأنا منهم، إلا إذا استطاع المجتمع الأميركي، وهو من المجتمعات الحية القادرة على إعادة تصحيح مسارها، والقادرة على نقد الذات وتقييمها من دون تمسك بمعتقدات بالية، أن يتحرر من عنصريته. المجتمع الأميركي بلا شك قطع أشواطا أبعد بكثير من غيره من المجتمعات الغربية والشرقية في مسألة اللون والعرق. فمنصب وزير الخارجية الأميركية تقلده اثنان من السود الأميركيين على التوالي وفي إدارتين مختلفتين ديمقراطية وجمهورية، وهما كولن باول وكوندوليزا رايس، هذا أمر بعيد المنال في القارة الأوروبية مثلا.

بلا شك، أوباما ليس أفضل أميركي موجود لحكم الولايات المتحدة، ولكن في اللحظات التاريخية لا يحاكم الأفراد على الكفاءة فقط. إن التصويت لأوباما اليوم هو مسألة أخلاقية في المقام الأول، فهو اعتذار عن واحدة من خطايا التاريخ البشري الكبرى. فأيا كانت نوعية إدارة أوباما، فإن فرصة وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض في مجتمع تلوث تاريخيا بالعنصرية البغيضة، هو أمر لا بد أن نقف معه. العنصرية ضد السود واستعبادهم لقرون من دون جرم ارتكبوه سوى أن لونهم مختلف، هي جريمة في حق البشرية نفسها. العبودية واقتياد الرجال والنساء والأطفال في سلاسل وأقفاص من أفريقيا إلى العالم الجديد أكبر خطيئة ارتكبها البشر في حق بعضهم البعض، وجرحها في النفوس لم يندمل إلى اليوم. ولا داعي لمقارنة الظلم بالظلم، فنقول إنها أكبر من الجريمة الفلانية أو العلانية، فأقل الظلم ظلم وأكبره ظلم، ولكن يبقى استعباد البشر لغيرهم من بني البشر هو أبشع أنواع الظلم.

تلقى أوباما تعليما ممتازا، وبلا شك هو تعليم أفضل مما تلقاه الرئيس الحالي جورج بوش. وعلى الأغلب، قد خلقت تجربته الشخصية لديه حساسية خاصة تجاه المظلومين في العالم، حساسية لا أشك في أن المؤسسات الأميركية القوية ستحرمنا من التمتع بمزاياها، فالرئيس الأميركي، مهما كانت قوته، ليس مطلق اليد فيما يفعل وتحكمه محددات معروفة، وربما من هذه المحددات هي أن يثبت للبيض أيضا أنه ليس عنصريا بطريقة معكوسة، وفي هذا تكمن ورطة أوباما إن انتخب رئيسا للولايات المتحدة. وبالتأكيد كثير منا لديهم تحفظات على سياسة أوباما تجاه قضية العرب الكبرى وقضايا الشرق الأوسط، ولكن يجب ألا ننسى أن هذا ليس مرتبطا بشخص المرشح بقدر ما هي رغبات من ضخوا الأموال الطائلة لحملة أوباما. تقف خلف الرجل الأسود مؤسسات مالية وجماعات ضغط معروفة بصداقتها مع إسرائيل، لذا لن يغير أوباما كثيرا في سياسة أميركا تجاه الصراع العربي الإسرائيلي والوصول به إلى بر السلامة. أوباما سيكون في الأغلب أسيرا لمموليه، لكن يبقى وصول أوباما إلى البيت الأبيض بارقة أمل بمعنى انتصار الإنسانية على عنصريتها.

سبب آخر لمنح صوتي لباراك أوباما، الشاب الأميركي الأسمر، هو أن نجاحه يمثل أملا لكل أطفال هذا العالم من المحرومين الذين عانوا والذين ما زالوا يعانون ولكنهم يواصلون المشوار، أدمنوا ليس على المخدرات، وإنما أدمنوا على الأمل. أوباما، ليس مجرد رئيس مقبل للولايات المتحدة الأميركية، هو بارقة أمل لأي إنسان يريد أن ينجح رغم قسوة الحياة، فهو ابن الكيني المهاجر الذي تزوج من امرأة بيضاء فقيرة، لم يكن أبوه يملك عندما ترك قريته البائسة في كينيا إلى آخر الدنيا، سوى الأمل. ومهما كانت تحفظاتنا على المجتمع الأميركي، تبقى أميركا بلد الآمال غير المحدودة لكل إنسان وأي إنسان، بغض النظر عن لونه أو دينه أو أصوله الاجتماعية.. لا يمكن أن يحدث هذا، في المدى المنظور، إلا في أميركا.

في رحلة أوباما الشخصية اختبار لمجتمع جديد مثل أميركا، مجتمع عمره قرنان ونيف فقط، لديه اليوم تحد كبير يتمثل في هذه الأسئلة: هل أميركا مجتمع قادر على التكفير الكامل عن خطيئته الكبرى وهي العبودية؟ هل هذا المجتمع قادر على التحرك ليقول إن العرق واللون فعلا لا يهمان؟ أم هو مجتمع يدفن رأسه في الرمال ويئد تطلعاته إلى الغد الأفضل، بدعوى أن لا وقت لديه للأمل لأن عدوا خارجيا يتهدده؟ أميركا اليوم أمام اختبار تاريخي صارم، وأمام لحظة اختيار حقيقية.

سأنتخب أوباما لأنني أتمنى أن ينتقل المجتمع الأميركي ومعه العالم إلى حالة مجتمع ما بعد العنصرية، كما أتمنى أن تنتقل عدوى الأبواب المفتوحة إلى عالمنا العربي الذي ما زالت أبوابه مغلقة في وجه السواد الأعظم من الشعب. يجب أن يكون الطريق إلى قمة الهرم السياسي مفتوحا للجميع ومن كل مؤسسات المجتمع. وأن تفتح طاقة الأمل أمام شبابنا، فالأمل المطلق حتى لو لم يتحقق فإنه يبقى وهجا للحياة.

في انتخاب اوباما رئيسا للولايات المتحدة الأميركية تصحيح لمسار التاريخ الظالم لفئة من البشر على أساس اللون والعرق، وفيه رسالة ضد الظلم بكافة أنواعه، وأمل لكل من ولد وليس في فمه ملعقة ذهب.