السعودية.. بين عماد يشكر وعماد يفتري

TT

مصادفة طيبة أن زيارة الشكر التي قام بها الرئيس ميشال سليمان الى السعودية كانت الى جدة التي لقي فيها من الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي العهد الامير سلطان بن عبد العزيز واخوانهما ما يبعث في النفس شعوراً بالطمأنينة على لبنان، وكانت في هذا الشهر بالذات تشرين الاول/ أكتوبر. ففي جدة توّج رموز الشرعية اللبنانية يوم الثلاثاء 24 تشرين الاول 1989 في رحاب الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله وبعد شهر من المناقشات والمشاورات في الطائف، الحل التوافقي للمحنة اللبنانية وهو حل ما كان ليتحقق لولا المملكة العربية السعودية ذلك ان الطائف لم تكن مجرد مكان استضافة مثل لوزان وإنما كانت الملاذ المصان بالحارس المخلص الذي يريد صادقاً وبعيداً عن أي مطامع إبراء الوطن المبتلى بصراعات واحترابات دامت ست عشرة سنة ومن دون أن تتقي بعض الاطراف الاقليمية الله وتتوقف عن رمي الحطب فوق لهيب النار.

بعدما اشتعل لبنان حرباً بين احزاب وحركات ميليشياوية منتصف العام 1975 كان الرئيس ميشال سليمان، المصادف مولده في عام نكبة العرب بفلسطين عام 1948، ما زال ضابطاً حديث التخرج من المدرسة الحربية يعاني كما سائر الزملاء الضباط والجنود مما أصاب الوطن لبنان وكيف ان احدى جولات الصراع انعكست على جيش البلاد فبعثرتْه شر تبعثُر. وكان تقسيم الجيش وليس انقسامه وليد مخطط جهنمي استهدف أن تحكم الميليشيات المتنوعة المشارب والعقائد السياسية الوطنية والمذهبية شكلاً، وهذا ما أكدته التداعيات وكيف أن الشيطان كان يوسوس في صدور ناس الميليشيات وتحوِّلهم من أصحاب قضايا وطنية الى ناحري الوطن بخناجر مسمومة.

وكان محزناً جداً أن قطاعات من جيش البلاد استُدرجت الى حلبة الصراع الشيطاني فما عادت البوابة محروسة وأصبح البيت مستباحاً بالكامل. وتلك صورة محفورة ولا بد في وجدان ميشال سليمان الذي قاده الحرص بعدما بات يشغل منصب «أمين الأركان» منذ 25/8/1991 على عدم الانحياز والضمير الوطني والسلوك المستقيم الى ان يواصل الصعود الى موقع قيادة الجيش يوم 21/12/1998.. فإلى أن يكون الرمز للتوافق على ان يكون هو رئيس البلاد متسبباً هذا الإجماع العفوي والتكتيكي معاً عليه في حذْف العماد الآخر ميشال عون من ساحة الترشيح له رئيساً للجمهورية، وهو الذي من أجل ذلك تحالَف مع «حزب الله» آملاً ان يكون الحزب والنظامان السوري والايراني بمثابة الرافعة التي تنقله من «فيللا الرابية» الى قصر بعبدا رئيساً للجمهورية. وهذا الحذْف جعل العماد عون يتصرف وكما لو أن في البلد رئيسين للجمهورية احدهما شرعي أي العماد ميشال سليمان والآخر «رئيس الظل» بما يعني أنه يُعد نفسه لكي يكون هو الرئيس في حال اختلطت الاوراق من جديد وجاء «الحق السوري - الايراني» على خلفية زهوق «الباطل البوشي». ومن هذا المنطلق تعمَّد «عماد الظل» ميشال عون أن يزور طهران في اليوم نفسه (الاحد 12/10/2008) لقيام «العماد الأصيل» ميشال سليمان بزيارته الاولى الى المملكة العربية السعودية، وبذلك إنطلقت ومن مطار رفيق الحريري (المغضوب عليه ظلماً من العماد عون حتى وهو تحت التراب وفي رحاب رب العالمين) طائرة في اتجاه مطار الملك عبد العزيز في جدة وطائرة الى دبي بين ركابها العماد عون الذي سيتوجه من دبي بطائرة أخرى الى مطار الخميني في طهران بينما الشعب اللبناني لا يجد تفسيراً لذلك سوى ان «الرئيس الظل» أي العماد ميشال عون لا يريد للبنان أن يستقر وذلك بترْك رئيسه العماد ميشال سليمان يحاول ما استطاع الى ذلك سبيلاً استكمال مسيرة اصلاح ذات البين، عسى ولعل بذلك يستعاد الرونق للوطن ويهدأ البال ويهاجر الخوف والقلق عوض هجرة الجيل اللبناني الباحث عن الطمأنينة في ديار الآخرين.

وبصرف النظر عما اذا كان التوقيت المشار اليه جاء من ابتكار العماد عون أو أنه أُوحي اليه بأن يفعل ذلك، فإنه من نوع الابتكارات التي تصدر عن الانسان الشغوف باحتراف الإغاظة كأسلوب للتعاطي مع قضايا وطنية تتطلب رجاحة عقل وليس مشاكسة. وكان يمكن النظر الى التوقيت بمنظار حُسن النية لو أن العماد «الرئيس الظل» لم يُضف الى التوقيت كلاماً غليظاً في حق دولة يزورها رئيس البلاد وذات أفضال على كل اللبنانيين، ليس فقط لأنها قبل تسع عشرة سنة ثبَّتت لهم دعائم كيان كاد يتساقط ووضعتهم على طريق الشرعية، وإنما لأنها بعد انجاز اتفاق الطائف تواصل السهر وبكل يقظة الحارس المخلص على لبنان المسجى على ساحة الصراعات، ولأنها ايضاً في عدوان تموز 2006 الذي تعددت الاجتهادات في شأنه صدَّت عنهم تداعيات كارثة العدوان فكان الدواء والنجدات المالية والصوت الذي ينادي بالتوافق والتفاهم والحرص على الخصوصية، وكان السفير الذي بذل جهداً لم يبذله سفير دولة أخرى قبل عبد العزيز خوجة وربما بعده بهذه الحيوية والمعاناة، وكان أيضاً العون المادي والتأهيلي لما تسببت به جولات «نضال فتح الاسلام»، وكذلك الكتاب والقلم والدفتر ورسوم التسجيل للالوف من الطلاب والطالبات الذين تحول الظروف المعيشية دون التحاقهم بمدارسهم. وهكذا فإن وقفة الملك عبد الله بن عبد العزيز وإخوانه وشعب المملكة في مواجهة تداعيات كارثة العدوان التموزي هي امتداد لوقفة المملكة عام 1989 لإنجاز اتفاق الطائف الذي يمقته العماد عون لأنه لم يكن شريكاً فيه أو لأنه صيغة مثالية نسبياً لاستبدال الفوضى بالاستقرار وهو يرى ان تألُّقه السياسي واستكمال ثاراته لا يتحققان في ظل الاستقرار. وهكذا رأيناه لا يحترم قيام رئيس البلاد العماد ميشال سليمان بزيارته الأولى إلى السعودية ولا حتى يراعي مرافقة الرجل الثاني في «التيار العوني» عصام أبو جمره للرئيس سليمان في هذه الزيارة ويقول قبل أن يغادر الى طهران كلاماً مسيئاً في حق واقع الحال، أي في الدور الكريم للمملكة العربية السعودية ازاء لبنان. وما قاله ليس فقط كلاماً ممقوتاً ربما يشنِّف الأذُن النجادية مع انه يشكل إحراجاً للرئيس الزائر وكذلك لإيران التي يزورها وأهداها افتراءات في حق السعودية قبل أن يصعد الطائرة الى مطار الخميني. كما انه إحراج للرئيس بشَّار الأسد الذي وإن كان لم يصرح برغبته في أن يحاول الرئيس ميشال سليمان خلال زيارته التمهيد لمصالحة سعودية ـ سورية إلاَّ أن ذلك لا يعني انه لا يريد. وحيث ان العماد عون محسوب جزئياً او كلياً في الوقت الحاضر وحتى إشعار آخر على الهوى السوري ـ الايراني فإن ما يقوله في حق المملكة من افتراء الكلام سيؤذي ما في خاطر الرئيس بشَّار التمني بحدوثه.

والذي يلفت النظر أن الكلام العوني حول «التبعية السياسية من جانب لبنان للمملكة العربية السعودية والادارة الاميركية» تزامن مع اطراء ايراني غير مسبوق لشخص عون كواحد من زعماء الشارع السياسي الماروني وللدور الذي يتطلع اليه من خلال زيارة ايران، وهو الذي (أي العماد عون) لخصه بالقول إنه في هذه الزيارة يمثل مسيحيي الشرق الأمر الذي جعل أطيافاً مسيحية لبنانية تقول في سياق الامتعاض من ذلك إن احداً لم يكلِّف العماد عون بهذا التمثيل وان ورقة مسيحيي الشرق لن تكون في اليد الايرانية انسجاماً مع وضع العونية نفسها ورقة في يد «حزب الله» والطرفين اللذين يلوذ بهما الحزب: النظام السوري والنظام الايراني. والإطراء الذي نشير اليه يتمثل في قول سفير ايران لدى لبنان محمد رضا شيباني «إن المكانة السامية التي يتمتع بها الاخوة المسيحيون في الجمهورية الاسلامية الايرانية وفي المنطقة تحظى باهتمام دؤوب من النائب عون. وهناك العديد من البرامج نُظِّمت سلفاً لهذه الزيارة ستتيح له ان يتعرف بشكل وثيق الى تلك المكانة السامية. ان لدى العماد عون مكانة مهمة في الجمهورية الاسلامية الايرانية، ونعتبر أن النظرة الاستراتيجية الصائبة والعميقة والسليمة التي يتمتع بها تحظى باحترامنا وتقديرنا. وقد دلت المراحل السابقة على صحة هذه النظرة الاستراتيجية لسعادته...».

يبقى القول إنه من حيث المبدأ والضرورة فإن اطلالات العاملين الفاعلين المؤثرين في القرار السياسي بين الحين والآخر على دول عربية واسلامية واجنبية من شأنها افادة لبنان، لكن في حال تمت هذه الاطلالات في الاطار الراقي والمسؤول والحرص الوطني وبمنأى عن اسلوب المكايدة الذي لاحظناه في تعمُّد «الرئيس الظل» العماد عون ان تكون زيارته لحليفه الايراني يوم زيارة «الرئيس الاصيل» العماد ميشال سليمان للأصدقاء السعوديين الحادبين على لبنان.. وبالذات عندما يُبتلى بما لا قدرة له على تحمُّله. وفي تعمُّد العماد عون ما تعمَّده كان مثل تعمُّد لوبان الفرنسي وهايدر النمساوي زيارة الرئيس صدَّام حسين في زمن الحصار الصعب ليس حرصاً عليه وإنما لأنهما من طبقة رجال السياسة المكايدين.. ولو حتى جاءت نتائج المكايدة على حساب بلديهما فرنسا والنمسا. وفي حينه شاءت الصدف ان العماد عون كان ثالث المكايدين... إنما لن يكون الاخير في عالم انخفاض منسوب الرقي في العمل السياسي وحيث صوت المُكايد يعلو على صوت رجل الدولة الوقور.