خيارات مصيرية.. ربما للمرة الأخيرة

TT

ما كان مسيحيّو لبنان بحاجة إلى مأساة إنسانية إضافية كتلك التي حصلت بالأمس في الموصل لمحاولة مراجعة أنفسهم والتفكّر ملياً بمخاطر «الخطوات الناقصة»، كما يقول التعبير الشعبي اللبناني.

إن الوضع المحموم واليائس المحيط بأحد آخر مواقع التعايش بين الديانات السماوية في الشرق الأوسط يفترض باللبنانيين عموماً، وبالمسيحيين اللبنانيين بصورة خاصة، وعي مخاطر المجازفات والخيارات الخاطئة والأوهام الملبّسة أقنعة الحصافة والحنكة التكتيكية. ففي بلد كلبنان، ومرّ بما مرّ به من تفاهمات عابرة ونكايات متبادلة، ما عاد أحد قادراً على التشاطر على أحد أو خداع أحد. وإذا كان العقلاء الذين أدركوا منذ بعض الوقت أن اندفاع الأحداث ربما انحرف بسبب استمرار أخطاء سوء التقدير إلى حقول ألغام خطرة، يظهر أن ثمة من لا يريد أن يستوعب هذه الحقيقة، بل يصرّ على القفز فوقها.

ومع أنه ليس دقيقاً القول إن «المعركة» الوحيدة في الانتخابات النيابية المقبلة ستحصل في الساحة المسيحية بعدما حسمت الطوائف الأخرى خياراتها، فهو لا ينفي حقيقة أن المسيحيين وحدهم أخفقوا حتى الآن في إدراك خطورة الانجرار إلى «حروب إلغاء» جديدة بأسلحة الآخرين. فالواضح لأي مراقب جادّ استحالة عزل المشهد اللبناني الداخلي عن المشهد العام في المنطقة، ومن ثم في العالم الإسلامي الأوسع.

هذا يعني أن النقطة الأولى التي يُفترَض بالرأي العام المسيحي تعريفها هو هل كان الضغط الشعبي لإنهاء هيمنة «حالة الوصاية» خياراً ظرفياً أم استراتيجياً؟ فإذا كان ظرفياً يصبح من حق النائب ميشال عون ومَن يؤيده فعل ما يشاء. أما إذا كان استراتيجياً فإنه يُسقط أي تبرير، مهما كان وجيهاً، وبالذات عند المسيحيين للانقلاب على شعارات طرحوها وآمنوا بها وناضلوا من أجلها قرابة ثلاثة عقود من الزمن.

النقطة الثانية هي هل ثمة شعور حقيقي بالقلق عند المسيحيين، في منطقها تآمرت فيها «الديمقراطيات» الغربية طويلاً على حق تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين ـ وغير الفلسطينيين من المظلومين والمكبوتين والمقهورين ـ وكانت النتيجة ارتفاع أسهم الأصولية الراديكالية الإسلامية بعد انهيار «اليسار» العلماني؟ وهل يضمن طمأنينة المسيحيين حقاً رهان بعضهم على «تحالف أقليات» انتهازي تروِّج له قوى تعمل حقاً لحساباتها الطائفية والمصلحية الضيقة.. بينما تدّعي العلمانية والعروبة الخالصة؟ وهل اهتم الغرب أصلاً بالمحافظة على الوجود المسيحي في فلسطين لكي يحافظ عليه ويناضل من أجله في العراق ولبنان وسورية وغيرها من أقطار عالمنا العربي التعيس؟ المنطق يقول إن هذا القلق موجود. واليوم نراه مبرراً أكثر في ظل التوتر الشيعي السنّي الناجم عن قرار إيراني استراتيجي بجعل «تصدير الثورة» إجراء دفاعياً ووقائياً للمحافظة على النظام وتوسيع رقعة حصانته ونفوذه. وبالتالي، خوض إيران حربها المقبلة مع خصومها العالميين ـ إذا ما اضطرت لذلك ـ خارج أرضها.

النقطة الثالثة هي هل توجد مصلحة عند المسيحيين، في لبنان تحديداً، في لعب دور فعّال في إشعال نار الفتنة السنية الشيعية بأمل «استعادة ما فقدوه» في «اتفاقات الوفاق الوطني» في الطائف؟ فالبديهي من خطاب استثارة الغرائز و«الاستعادات» عند ميشال عون أنه كان ضد «الطائف» وما زال ضد «الطائف» لأسباب لبنانية بحتة. وكان دوماً مستعداً للتفاهم مع أي طرف خارجي يساعده على ضرب مَن يعتبرهم خصومه الداخليين، ولكن في كل مرة راهن فيها عون كان يخسر لأن هذا الطرف الخارجي أو ذاك كان يعرفه جيداً ويفهم ما يريد، وبالتالي كان يبادر إلى استغلاله لتحقيق مآربه بدل أن يحصل العكس. واليوم، بينما ينهمك اللبنانيون في تبريد الأجواء المتشنجة المحيطة بهم، يلجأ عون إلى التوتير والتصعيد قبل أن يتوجه إلى إيران، التي لم يكلفه أحد قبل بضع سنوات أن يطير إلى واشنطن للتحريض عليها وعلى حزبها اللبناني وحليفتها الإقليمية سورية من قلب الكونغرس.

حيال هذه «الحالة العونية» المستعصية ما زال هناك من يظن أن الهجوم، أو حتى الانتقاد، يمكن أن يغيّر قناعة مَن يصرّ على اعتبار «الجنرال» هبة سماوية بيدها مفتاح خلاص المسيحيين في لبنان. لكن الحقيقة المؤسفة، أن هذا القطاع من «العونيين» لا يمكن محاورته أو إفهامه بالمنطق لجملة من الأسباب، منها ما يعود إليه.. ومنها ما يعود إلى خصومه.

فالمقتنع حقاً بأن «الجنرال» قماشة مختلفة عن سائر البشر يستحيل أصلاً النقاش معه في السياسة لأن الأصح في هذه الحالة اللجوء إلى لغة اللاهوت. والساسة الانتهازيون الذين ربطوا مصالحهم بـ«المقتنعين اللاهوتيين» ينظرون إلى الاعتبارات الديموغرافية في مناطق مثل جبيل وبعبدا، وربما المتن الشمالي أيضاً، فيَرون في «وثيقة التفاهم» مع «حزب الله» خشبة خلاص وضمانة أكيدة للفوز بأصوات مد شيعي كبير.. يزكّي ـ وهنا المفارقة المضحكة ـ زعامة عون على الموارنة.

وفي المقابل، يجب الاعتراف بأن ظروف الحرب الأهلية في لبنان ولّدت نفوراً من ممارسات قوى الأمر الواقع المسلحة، أي الميليشيات، بقدر ما خلقت ولاءً طائفياً وسياسياً لها. وهذا يصدُق على ميليشيات مجمل الطوائف اللبنانية.

وبالتالي، ظل احتفاظ «القوات اللبنانية» باسمها «العسكري» تذكيراً حياً بإيجابياتها في تلك الحقبة و.. بسلبياتها أيضاً. وحسناً فعل الدكتور سمير جعجع باعتذاره الشجاع لأنه عكس إدراكاً عميقاً بواقع ما زالت جهات أخرى ترفض الإقرار به. وحقيقة أن نسبة لا بأس بها ممّن ابتعدوا عن تيار عون لم تذهب تلقائياً إلى «القوات» كانت مؤشراً أسهَم على الأرجح في قراءة جعجع الصحيحة.

أضف إلى ما سبق الانقسامات التي رافقت تشكّل «القوات» وصولاً إلى وضعها الحالي. فبضع حركات مسيحية حالية انبثقت عن حقب وتناقضات عبر تلك المسيرة منها حزب «الوعد» (إيلي حبيقة) و«حركة الحرية» (فؤاد أبو ناضر ورفاقه) وغيرهما. وهذا التشظّي وسط استمرار العداء ساعد عون، وما زال، على العبث بعواطف الشارع المسيحي وإثارة غرائزه مع الاقتراب من الانتخابات المقبلة.

التحدّي الأكبر أمام المسيحيين اليوم هو فهم حقيقة المعركة الانتخابية التي تنتظرهم بلا تمويه. فـ«حزب الله» حريص على تأمين الساحة الداخلية لحمايته من غدرات الزمان.. وغيره. ودمشق عائدة إلى الساحة اللبنانية بتواطؤ دولي بحجة ضبط «الأصوليين» التي كانت قد زرعتهم. والفريق الذي يحرص على لبنان «عربي» و«ديمقراطي» و«تعدّدي» و«معتدل» يناضل من أجل الصمود بعدما تحمّل طويلاً أخطاء المجتمع الدولي وخذلانه له.

باختصار، أمام المسيحيين أن يختاروا.. وربما للمرة الأخيرة!