الخليج: الموازنة بين التنمية والعمالة الأجنبية

TT

الطمأنة سلاح الدولة ضد الشائعة في زمن القلق والخوف. لكي تكون الطمأنة فاعلة لا بد من المصارحة. الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع هي أساس المصارحة والمكاشفة.

في زمن الانهيارات المالية المروِّعة التي تجتاح النظام الرأسمالي، يلعب الرقم دور الحقيقة. كلما اقتربت أرقام الدولة من الحقيقة، كانت ثقة المحكوم بالحاكم أكبر وأعمق.

هل تلقت المجتمعات العربية تأكيدات رقمية حقيقية كافية لتبديد القلق والخوف على رصيدها واستثماراتها من المال العام الموجود في الداخل والخارج؟ لا شك أن رأس المال العربي العام هو الأقل تأثرا بالأزمة العاصفة. هذه الحصانة وفرها تراكم الموارد النفطية. كانت هذه الحصانة مسلحة أيضا بنوع من حذر الدولة الخليجية في الاستثمار الخارجي، ولا سيما في «الكازينوهات» الغربية. أقصد بالذات المصارف الأميركية الكبرى التي ذابت كجبال الجليد تحت أشعة الشمس الحارقة.

السعودية أكثر الدول الخليجية حذرا وتحفظا وحكمة في الاستثمار الخارجي. عموما، وظفت الدولة الخليجية جانبا من تراكماتها المالية في برامج التنمية الانشائية والانمائية الداخلية. السعودية تشهد اقامة مدن صناعية، تعتبر في حالة ازدهارها، بمثابة ثورة انمائية حقيقية، سوف تتلو الثورة الانشائية والانمائية التي سجلتها الدول الخليجية، منذ امساكها بقطاع النفط المحرر في الربع الأخير من القرن الماضي.

الحذر دفع بالدولة الخليجية الى الاتجاه نحو الاستثمار في الأسواق الجديدة، الأسواق الآسيوية، وفي القطاعات الانتاجية بالذات، كمصانع تكرير النفط، حيث المردود أكبر وأضمن.

الدول الآسيوية كالصين وماليزيا تقدم للرأسمال العربي ضمانات استثمارية أكبر. لم تتلوث بعد مؤسسات الاستثمار هناك بانهيار القيم الأخلاقية الجادة في مصارف العالم الغربي، منذ غياب رقابة الدولة على حركة المال والاستثمار.

المؤسف ان الدولة العربية غير النفطية لم تقدم للرأسمال الخليجي ضمانات كافية للاستثمار. نعم، هي سنَّت قوانين تشجيعية. لكن شراهة الفساد في استغلال المستثمِر الخارجي حالت دون تدفق المال الخليجي على الاستثمار بوفرة في القطاعات الانتاجية، وخاصة الزراعية. اقتصر الأمر عموما على الاستثمار في القطاعات الخدمية كالفنادق.

غير ان الاتجاه نحو الاستثمار في الأسواق الجديدة والتزام التحفظ والحذر، لم يكونا كافيين لتبديد القلق والشائعة، على الرغم من التطمينات والتأكيدات الحكومية المستمرة. السبب غيبة الرقم عن هذه الطمأنة. الرقم عامل حاسم. الشفافية في الإعلان عن أرقام الاستثمار تتطلب شجاعة معنوية وأدبية كبيرة من الدولة الخليجية.

لا أظن أن هناك موانع كبيرة تحول دون استخدام الرقم. الدولة الخليجية غير الدولة العربية التقليدية. الدولة الخليجية دولة مانحة. كريمة مع مجتمعها. سخية في تقديماتها الصحية والاجتماعية والخدمية. الدولة الخليجية، عموما، لا تفرض ضرائب. لا تقيم حواجز ضد انتقال الأموال، ولتصدير أرباح الشركات ومدخرات العاملين العرب والأجانب.

من هنا واعتمادا على هذا التواصل الاجتماعي الحميم بين الدولة والمجتمع، فالدولة تستطيع أن تعلن عن الرقم الاستثماري، من دون أي حرج أمام المواطن الخليجي، حتى ولو تعرض الإعلان عن الأرباح والخسائر إلى الاستغلال السياسي. الحذر ايضا مطلوب حتى في الاستثمار الداخلي، في ظروف الازمة المالية الراهنة، ولا سيما في قطاع العقارات، حيث التنافس شديد على بناء ناطحات السحاب التي ستسكنها الأشباح.

بتفصيل أوسع، هناك صناديق ومؤسسات استثمارية حكومية تستثمر جانبا من موجوداتها في الخارج. الشفافية في الدولة الحديثة تفرض تقديم بيانات صريحة عن أرقامها، ليكون المواطن الخليجي على بيِّنةٍ من حركة المال الاستثماري العام. بل لعل إشراك مجالس الأمة والشورى في الموافقة على الاستثمارات الخارجية ما يقدم طمأنة أكبر للمواطن، وما يفرض حذرا وتحفظا أعمق على الاستثمار.

غيبة الرقم قد تحول دون مطالبة الصناديق الاستثمارية الخليجية وزارة الخزانة الأميركية بالاستفادة من المبلغ الضخم (700 مليار دولار) الذي خصص لتعويم المصارف المفلسة وسداد ديونها.

بتشجيع من أوروبا وأميركا، تعقد في بعض إمارات ومشيخات الخليج مؤتمرات وندوات تحث النظام العربي على انتهاج الديمقراطية والشفافية. الداعي أولى بالمعروف. إذا كانت الشفافية والتعددية وتوسيع دائرة الحكم حاجات ضرورية في العالم العربي، فهي أيضا حاجات ضرورية في الدوائر والبيئات الرسمية الداعية لها.

الدولة الخليجية مطالبة بأن تدرك أيضاً قيمتها المعنوية الكبيرة بانتقال مركز الثقل المالي والاقتصادي بل والسياسي إليها، من مجتمعات عربية تباطأ تقدمها بسبب الفساد والترهل والبطالة والتكاثر السكاني الهائل الذي يلتهم التنمية، ويشيع الأمية وثقافة التخلف.

إذا كانت الدولة الخليجية مطالبة بمزيد من الحذر في الاستثمار الخارجي، فالمجتمع الخليجي، مواطنين ومؤسسات وقطاعات وهيئات خاصة، مطالب بأن يعي ويقدر القلق على المستقبل. لا شك أن التنمية السريعة فرضت الاستعانة بالعمالة الأجنبية. قد لا يكون الخطر السياسي للعمالة العربية كبيرا، بحكم الهوية القومية المشتركة للخليجي وللمقيم العربي. لكن الخطر الكبير يأتي من العمالة الأجنبية المستوردة، بشكل خاص من آسيا.

لست عنصريا ضد العمالة غير العربية في الخليج. أقول بصراحة ان عليها واجبات كما لها حقوقا. معظم هذه العمالة، وخاصة الميدانية منها، آت من بيئات ومجتمعات فقيرة ومتخلفة. على الدول المصدرة لها أن تزودها بمعلومات عن المجتمعات المستقبلة، عن واجبها في احترام الأمن والتقاليد والنظم والقوانين العربية.

على صعيد الحقوق، هذه العمالة المليونية بحاجة إلى معاملة إنسانية وأخلاقية نبيلة من المجتمعات المستقبلة لها. عشرات ألوف العمال يعملون لدى شركات، خاصة المقاولات، بلا رؤوس أموال كافية. الشركات تنتظر صرف استحقاقاتها المالية من القطاعين العام والخاص الخليجيين.

عندما يتأخر الصرف لا يقبض العمال أجورهم شهورا. لا بد من تحسس ظروف عامل يعمل في أقسى ظروف الطبيعة الصحراوية عداء. عندما لا يقبض أجره، عندما لا يستطيع أن يرسل بانتظام مساعدة لزوجته وأطفاله. عندما يقيم مع عشرة عمال مثله في كوخ من الصفيح... من الطبيعي أن يتمرد على الأمن والنظام.

الدولة الخليجية مطالبة بإلغاء نظام الكفالة المهين، والكف عن مصادرة جواز السفر. مطالبة بالإشراف هي مباشرة على استيراد هذه العمالة، وعدم تركها لشركات مستغلة ومسيئة لسمعة العرب، أو الخليجيين بالذات.

هذه العمالة تشكل خطرا، حاضرا ومستقبلا، على الهوية الخليجية والقومية. غدا، سوف تطالب بـ«حقوق» الإقامة الدائمة. أو حتى المواطنة. هي خطر داهم على الثقافة واللغة العربية، الخليج يتولد بسرعة 350 ألف طفل في السنة. أجيال باتت مرتبطة بخادمات لا يعرفن العربية، ولا يتقن أصول التربية.

كيف يمكن الموازنة بين التنمية والعمالة؟ إنها مهمة المجتمع قبل مهمة الدولة الخليجية. انتهى عصر المال السهل. الأجيال الخليجية الشابة مطالبة بوعي أكبر لقيمة العمل. هي تستطيع أن تسد جانبا كبيرا من النقص، بالإقبال على التدريب المهني، ووعي ثقافة العمل الجاد. لعل إشراك وتدريب الفتاة الخليجية المتعلمة، في قطاعات العمل المناسبة لها، ما يخرج المجتمع من حالة الشلل الذي يعانيه نصفه...

أظن أن عليّ أن أتوقف هنا كي لا أمسَّ المحظور. لعل عذري في النصيحة هي الغيرة القومية على مجتمعات جديدة، يتعلق بها إلى حد بعيد، المستقبل العربي كله.