.. وبدأت المحاكمة

TT

بدأت صباح أمس محاكمة حوالي سبعين متهما في قضايا أمنية إرهابية في السعودية، بعد طول انتظار منذ بدأت أولى عمليات «القاعدة» السعودية في 12 مايو 2003 بتفجير بعض المجمعات السكنية في الرياض.

وزارة الداخلية السعودية أعلنت أكثر من مرة ـ آخرها قبل بضعة أيام على لسان الأمير نايف ـ عن قرب بدء عرض المتهمين على القضاء السعودي، وعزا البعض تأخر المحاكمة إلى تحضير الأجواء القضائية المناسبة، وكان هناك حديث كثير عن إنشاء محكمة خاصة بقضايا امن الدولة، يعين لها قضاة متخصصون بقضايا الأمن من منظور فقهي، يعني أن يكونوا من المتعمقين بفقه الحرابة والبغي والخروج، وهي التعبيرات والمفاهيم الفقهية لمعنى: الإرهاب السياسي بالمعنى المعاصر.

الآن الأخبار تقول لنا إن هناك حوالي 12 قاضيا سيتولون النظر في هذه القضايا ومحاكمة نحو سبعين متهما، حسبما نشرت صحيفة «الوطن» السعودية أمس. وقد تم تخصيص طابقين في مبنى المحكمة في العاصمة الرياض، مرفوقة بترتيبات أمنية مشددة. ونشرت الصحيفة أيضا أن هناك حراسات أمنية دائمة لرئيس الدائرة الجزائية وبقية القضاة.

كل هذا الحذر والانتباه مفهوم وسائغ بالنظر إلى أسبقية وأولوية هذه المحاكمة في تاريخ المجتمع السعودي، إنها ليست محاكمة عادية، أو هكذا يجب أن تكون، ليست محاكمة عادية لجهة كثرة أعداد المتهمين، فهم ـ فقط في هذه الجولة ـ سبعون، بين منفذ لأعمال إرهابية أو محرض أو ممول، ولا لجهة نوعية التهم الموجهة لهم، فهي وإن كانت تُهَم تنصب على الجانب الجنائي لما قام به المتهمون من قتل وتخريب وإخلال بالامن، إلا أنها ليست جنايات عادية، فهي ذات مضمون سياسي وفكري وديني، وهي خلطة ملتهبة ومتعددة القراءات، ولا لجهة نوعية القضاء الناظر في هذه التهم، فهو قضاء يعتمد التشريع الإسلامي، ولا يتوقف المسؤولون السعوديون عن التشديد على ذلك، الأمر الذي يعني أنه في هذه المحاكمة سنرى نوعا من أنواع السجال الداخلي الثري والاستثنائي بين من يدّعي تمثيل الإسلام الصحيح، وهم أنصار تنظيم «القاعدة»، وبين من ينفي عن الإرهابيين صفة تمثيل الإسلام ويتهمهم بتحريف الدين وتشويه فهمه واستخدامه ذريعة للقتل والإخلال بالأمن.

إنها محاكمة تتجاوز السبعين متهما، وبقية رفاقهم، وتتجاوز الاقتصار على عدد القتلى او إحصاء الأضرار التي تسببوا بها في العباد والبلاد، إنها محاكمة تفتح على أسئلة نقدية للثقافة وطبيعة التعصب الديني الذي قاد هؤلاء الفتية الى الارهاب والقتل، لأن الارهابي قبل ان يكون ارهابيا يقتل ويفجر، كان متعصبا، فالتعصب هو مقدمة الارهاب، فهل تكون المحاكمة مفيدة في محاكمة التعصب ايضا ؟! صحيح أن القضاء بطبيعته لا يحفل بجدالات وسجالات أهل الفكر والثقافة، بل ينظر بشكل محدد في القرائن والأدلة الجنائية ويستوفي النظر في الدفوع، حتى يخرج بحكم كامل او قريب من الكمال او يحاول ذلك على الأقل، إلا انه لا مناص من وجود الطابع السياسي والآيدولوجي والاجتماعي الضخم في هذه المحاكمة الاستثنائية، ليس من قبل القضاة، بل من قبل المهتمين بهذه المحاكمة.

هناك مطالبات بعلنية المحاكمات، وهي محاكمات ستطول بكل حال، ولكن لم يتبين بعد مدى الاستجابة لهذا المطلب، وحسب جريدة «الرياض» السعودية في عددها الصادر أمس فإنه «في الوقت الذي تأكدت فيه (علنية) الأحكام التي ستصدر بحق المتهمين السبعين، تبقى مسألة دخول وحضور المحاكمات بإذن القاضي نفسه، حيث يقرر ذلك وفق ما يراه، فيما سيُسمح لكل متهم بتوكيل محام للدفاع عنه أسوة بباقي القضايا العادية».

شخصيا أتمنى أن تكون المحاكمة علنية ومفتوحة للإعلام والجمهور، وان يأخذ المتهمون، او من يتولى الدفاع عنهم، فرصتهم الكاملة في الحديث والدفاع عن أنفسهم وتقديم حججهم الدينية والسياسية، وكل ما يخطر ببالهم، أمام القضاة، بحضور الأعين الإعلامية، ليرى الجميع كيف يفكر هؤلاء وما هي منطلقاتهم، وما هو منطقهم ؟

المحاكمة العلنية الواثقة تعني ثقة النظام العدلي في السعودية بنفسه وبموقفه، وهي خير دفاع عن البلد، أمام الإعلام والمنظمات الغربية التي توجه سهام نقدها للسعودية، فالرد العملي على الأرض خير من مئات المحاضرات والكتابات، بل يا ليت أن المحاكمات تكون مفتوحة لحضور إعلاميين غربيين وشرقيين حتى يروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم طبيعة موقف الناس في السعودية من الفكر الإرهابي وطبيعة عمل القضاء السعودي، أتصور أن هذا الانفتاح هو خير خدمة يقدمها السعوديون لأنفسهم وهويتهم أمام العالم، وهي أفضل دفاع عن الهجوم الدائم على صورة السعودي والسعودية.

هذا جانب من جوانب الفائدة في ترك الحذر وفتح المحاكمات أمام العلن، والجانب الآخر من الفائدة هو في فتح جراح التعصب وإخراج القيح الفكري منها، وذلك لا يكون بإهمال الجرح وتركه للزمن، لأن بعض الجراح قد تتحول إلى مصدر للخراج الضار ويكبر البلاء عن مجرد كونه جرحا الى كونه مصدرا للمرض المنتشر تحت الجلد..

لنكن صريحين بعض الشيء.. لا تخفى على أحد طبيعة الاتهام الموجه للسعوديين، بكونهم داعمين للإرهاب وفكره، وقد شاهدت قبل أيام في ختام مهرجان ابو ظبي للسينما فيلما ـ عرض بشكل خاص في حفل الختام ـ من اخراج المخرج الاميركي الشهير ريدلي سكوت وبطولة رسل كرو، وليوناردو دي كابريو، تدور قصته حول عميل للمخابرات الأميركية «السي آي إيه» يقوم بملاحقة بعض الإرهابيين الإسلاميين في العراق والأردن، وفي بعض الأحداث يتم اختطاف هذا العميل (دي كابريو) من قبل القاعديين، وأثناء تعذيبه على يدهم يرد عليهم بالسخرية منهم وأن السعوديين المتعصبين لن ينفعوهم مهما دعموهم! ورغم أن هذا الفيلم المسمى بـ«كتلة أكاذيب» يعتبر متوازنا قياسا بأفلام أخرى، إلا أنه لم يوفر السعوديين من الهجوم، ومن أجل ذلك فإن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم وليس التجاهل والإهمال، ومن الفرص السانحة لهذا الهجوم الايجابي هي هذه المحاكمة العلنية لمتهمي الإرهاب في السعودية وفتح السجال والنقاش معهم على الملأ، أولا من أجل الدفاع عن القضاء السعودي، وثانيا من أجل نقل هذا الجدل الفكري والسياسي إلى خارج أروقة المحكمة، إلى أروقة المجتمع نفسه، الذي يجب أن لا نخدع أنفسنا بالقول إنه لا يوجد أي دعم من بعضه للإرهابيين وفكر الإرهابيين، ناهيك من دعم المتعصبين الدينيين والنظر لهم نظرة إجلال وخضوع نفسي.

المحاكمة الحقيقية ستكون في ميدان الفكر والثقافة، وهي المحاكمة التي ما زالت هشة، بالقياس الى الهجاء الإعلامي الذي لا يتجاوز سطح الجرح الى جذور الداء، وكيف يحارب جذر الداء في الوقت الذي يرى بعض مدعي محاربة الإرهابيين أن الخطر الحقيقي هو فيمن ينادي بإصلاح الخطاب الديني والاجتماعي ومحاربة التعصب الديني، لأن من يطالب بهذا في نظر بعض مدعي محاربة الإرهاب، ليس إلا خائنا للإسلام وتابعا لأعدائه! شيء غريب.. كيف يطالب هؤلاء بمحاربة الإرهاب بلسان، ويرفضون نقد أسسه الفكرية بلسان آخر !

يجب أن نسجل أنه يحسب للمملكة العربية السعودية إقدامها على هذه الخطوة الجريئة، ويحسب على وجه الخصوص للسلطات الأمنية التي حولت المتهمين، بضخامة عددهم وحساسية قضيتهم، إلى القضاء، وأطلعت الإعلام على خطواتها هذه، يبقى الدور على القضاء السعودي ، وهو الدور الذي سيكون أهم الأدوار في هذه الحكاية الكبرى، إنها اهم محاكمة في تاريخ السعودية.

[email protected]