«القاعدة» منتج أصولي.. والإرهاب ينتج نفسه

TT

الإرهاب الذي تمارسه «القاعدة» لا يمكن تفسيره من خارج المنظومة الفكرية المؤسسة له، لأنها منظومة تطورت مع الوقت وخلقت وحشا دمويا يدار بغرائز عقيدية لا يمكن كبحُها إلا بالقضاء عليها، فهذا الوحش الذي ولد من رحم منظومة أصولية شمولية رغم نتائج أفعاله المدمرة للإسلام ومصالح المسلمين ونفيه للإنسان والسلام لم يعدّ قادراً على مراجعة نفسه من الداخل، فعقله مسجون بالقيود العقدية للمنظومة الإرهابية، ومن جهة أخرى لا يمكن أن تعيق جبروته وظلمه الضربات المتلاحقة والمؤلمة؛ فالوحش تحركه إستراتيجية الانتحار، هذا الوحش الذي اتخذ من التدمير إستراتيجية لتحقيق غرائزه العقائدية، كما تجلت في دستوره الجديد «إدارة التوحش» لا يقبل أيضا النصائح المقدمة من الأصولية التي أنتجته، والتي لم تعدّ قادرة على مواجهته بل أن محاولات رجال الدين القريبين من «القاعدة» باءت بالفشل ولم يتوان منظرو «القاعدة» من تكفير علمائهم واتهام كل ناقد لهم من منظري الأصولية بالصهيونية وعبيد الغرب. ومن الواضح أن منظومة «القاعدة» الإرهابية انغلقت على نفسها وأصبحت هي المنهج الذي من خلاله تفهم الواقع وتواجهه، وفي المقابل، ترفض بالمطلق قبول أي منهجية من خارج منظومتها، بما في ذلك المنظومة الفكرية للأصولية التي تولدت من رحمها، وهذا لا يعني أنها لا تستعين بالمنظومة الأصولية، فهي سندها في تدعيم مقولاتها وشرعنة فعلها، ومفارقة «القاعدة» للحركات الأصولية نتيجة قناعتها أن تلك الحركات انتهازية ومرعوبة وجبانة من ترجمة أفكارها إلى واقع عملي.

والمتابع لخطاب «القاعدة» سيلاحظ أنه في جوهره لا يختلف كثيرا عن الخطاب الذي تنتجه الأصوليات المتطرفة، والتي بدورها لا تقترب كثيرا في نقدها للجذور الفكرية المؤسسة لفعل «القاعدة» وإنما غالبا ما يكون اعتراضها على مبررات الفعل وإستراتيجية التنفيذ؛ فبعد أن اكتشف الأصولية مخاطر الإستراتيجية التي تتبعها «القاعدة» على الإسلام ومصالحها ومصالح الأمة، بدأت تواجه «القاعدة» دون أن تمس المنظومة المؤسسة للفعل. فـ«القاعدة» في نهاية التحليل ليست إلا إفرازاً طبيعياً للفكر الأصولي، وهذا الفكر هو من يمدها بالأفكار والمقاتلين، فالخطاب الأصولي يعبئُ الشبابَ ضد كل من يخالفه في الداخل أو الخارج ويزرع في نفسه وعقله رفض الواقع ويدعوه ان يبذل قصارى جهده لتغيير لينسجم مع أفكاره، ولأن التحولات مذهلة ولا يمكن إيقافها وتعمل ضد الأصولي، يُصاب الشباب عادة باليأس، وعندئذ تتمكن «القاعدة» من تجنيد الشباب الذي أعده الفكر الأصولي وزرع في عقله ونفسه الكراهية والحقد لكل من يناقض منظومته الفكرية. الأصوليات السلمية تنتج أفرادا متطرفين وعنيفين في مواجهة الخصوم، فالعنف كامن في بنيتها مهما حاولت أن تؤصل للسلم، وهذا يفسر ترك الشباب المتحمِّس الذي تشرَّب الفكر المؤسس للإرهاب منها، وعادة ما يجدون في «القاعدة» نموذجا مثاليا للفكر والعقيدة التي يؤمنون بها، فالأصوليات بخطابها التغييري تؤسس للكراهية والحقد لكل من يناقض رؤيتها، ولأن «القاعدة» هي أعلى مراحل تجليات الكراهية والحقد، لذلك فهي مأوى لمن تعجز الأصولية السلمية بالتنظيم الحديدي من كبح جماحه.

وعلى الأصولية أن تعترف بأنها تنتج الإرهاب وعليها أن تعيد قراءة الواقع من جديد من خارج منظومتها الذي أنتجتها أثناء تفاعلها مع واقعها وعليها أن تعترف بأن المنظومة منتج بشري لا إلهي، فالقراءات التي قدمتها الحركات الإسلامية بشتى تنوعاتها للإسلام هي نتيجة تأثرها بالتحولات المتلاحقة في المجتمع الإسلامي، وهي بناءات آيديولوجية أنتجتها عقول منغلقة على ذاتها ومجروحة ومتهورة، ورغم تأثر بعضها بالعصر إلا أن الأصولية ظلت ثابتة وجامدة ووظفت آليات العصر ومنتجاته لترسيخ قراءاتها الماضوية بما ينفي العصرَ جذرياً ويؤسس للصراع الدائم مع تحولاته وحاجاته.

وما يعمق من تطرف الأفراد المنضويين في الحركات الأصولية الرافضة لإستراتيجية التنفيذ التي تتبعها «القاعدة» أنها تقاتل العصر بأدوات سلمية على مستوى العمل اليومي، ولكنها في خطابها تمارس قتالا شرسا مع العصر وتنفيه كلياً وتؤكد أنها الحق المبين المنتصر لا محالة، مما يجعل أعضاءها والمتأثرين بخطابها يصابون بالإحباط عندما تفشل تلك الحركات في تحقيق أهدافها، فتناقضها مع حاجات الناس ومع التحولات الطبيعية في الواقع والتي لا تتناقض مع الإسلام حولها إلى حركات معزولة ومنطوية على ذاتها، وعندئذ يصبح العنف إستراتيجية محسومة في لحظات اليأس بعد أن تم تأجيلها في لحظات نشوتها بالتأييد الجماهيري.

مع ملاحظة أن الأصوليات التي أمسكت بالقوة السياسية من خلال تعبئة الناس في الدول المتحولة نحو الديمقراطية بالشعارات الفضفاضة أو من خلال الانقلاب أو بالثورة في الدول الأخرى، فإنها عادة ما تفشل في إدارة دفة الدولة وتفشل في إحداث النهوض لأنها تحاصر المجتمع من أن يطور ذاته حتى يتواءم مع حاجاته التي تفرضها التحولات التلقائية في البيئة المحيطة. ونؤكد هنا أن المشكلة ليست في الفشل، بل في فهم الأصولي لفشله، فالفشل قد يصبح مدخلا للنقد وتطوير المنظومة من الداخل لصالح الواقع وحاجاته التي لا يمكن إشباعها إلا باستيعاب منتجات العصر والولوج إليه بأدواته ومنتجاته، إلا أن الملاحظ أن كل الأصوليات رغم تناقض عقائدها إلا أنها تتشابه في آليات العمل وطريقة التحليل والفهم، فكل أصولية لديها اعتقاد جازم أن بناءها الآيديولوجي هو الحق والعقيدة المنتصرة بإذن الله، لذا فإن فشلها لا يعود إلى ظروف موضوعية واقعية ولا يعود إلى طبيعة الحركة وتركيبتها التنظيمية وبنائها الفكري وفهمها الأعوج والضبابي المبني على الآيديولوجيا المتحكمة في الحركة والمتناقض مع الواقع وحاجات الناس، بل فشلها نتاج لتآمر تديره قوى خفية تحرك العالم كله لمواجهتها وتدمير الإسلام من خلال إفشال مشاريعها التي هي الإسلام ذاته والمعبر الوحيد عن مصالح الأمة الإسلامية.

والمتابع للخطاب الأصولي سيجد أنه منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين بمصر عام 1928، ونتيجة صراعاتها المتتابعة وما أنتجت من حركات جهادية وسلمية منفتحة ونتيجة تمكنها من التأثير على السلفيات المختلفة، فقد ساد اعتقاد مطلق لدى الأصوليات جميعها أن عجزها عن السيطرة والهيمنة على الدولة والمجتمع نتاج لمؤامرة عالمية تقودها الصهيونية العالمية وأعوانها الخونة من حكام الأمة الإسلامية وعلمانييها وكفارها من المذاهب الإسلامية الأخرى. وقد تضخم العقل التآمري مع الهزيمة التي تلقتها القوى القومية والقوى الوطنية، نتيجة لفشل مشاريعها والتي هي في منظومة الأصولية عملاء وأدوات الغرب التآمرية إلا أن هزيمتهم وسعت من نظرية المؤامرة واستغل كل طرف النظرية لخدمة مصالحه، وبلغت نظرية المؤامرة ذروتها مع هيمنة خطاب الخميني في الثمانينات الذي ما زال قائما حتى اللحظة. وبفحص إستراتيجيتها وخطابها، سنجد أن «القاعدة» حتى وإن لم تكن واقعاً هي الجناح العسكري للأصولية إلا أن أفعالها تمثل تجلياً طبيعياً لخطاب الأصولية والخطر الذي يخيف الأصولية من «القاعدة» أن طبيعة «القاعدة» أصبحت تنتج الإرهاب بشكل تلقائي ولا يمكن إيقافها، وهذا يمثل من أعظم المخاطر الذي يهددها، وهذا أيضا يفسر مواجهتها لـ«القاعدة» لأنها أصبحت عدوا يعيق طموحاتها ويؤلب عليها الخارج والداخل.

وهنا لا بد أن نشير إلى موضوع خطير وهو محاولات تفسير إرهاب «القاعدة» من خارج منظومته المنتجة له من خلال التفسيرات والتبريرات المختلفة، والتي تحاول فهم الإرهاب من خارج منظومته، أن إرهاب «القاعدة» لا يمكن تفسيره من الخارج لأنه أصبح ينتج نفسه بنفسه، فالقاعدة مختلفة عن الأصولية الإسلامية التي يمكن بإمكانية تفسيرها جزئيا من خارجها إلا أن التفسير أيضا لا يمكن أن يكتمل ما لم يتم دراسة منظومتها الفكرية. وتؤكد التجربة أن التبريرات التي تقدمها «القاعدة» أو بعض الدراسات المختلفة بما في ذلك الغربية والمؤسسة على الواقع الموضوعي لمحاولة فهمها وعملياتها وغزواتها التدميرية لا تقدم الصورة مكتملة بل مشوهة وناقصة، وتلك التبريرات والتفسيرات بوعي بالنسبة لـ«القاعدة» وبلا وعي لدى الكثير تمثل دعاية من خلالها تحاول خلق شرعية لفعلها المتناقض مع الدين والعقل والواقع. وتشكل بالنسبة لـ«القاعدة» أيضا قوة داعمة للأنصار والمؤيدين ودافعا تحفيزيا يسهل لها ممارسة التعبئة الآيديولوجية ومن ثم تجنيد شباب المسلمين لتنفيذ إستراتيجيتها التي لا يمكن أن تتوقف طالما ومنظومتها الفكرية باقية وتنتج نفسها وتطور من فاعليتها مع تطور الصراع.

علينا أن ندرك أن المشاكل المختلفة التي يعاني منها المجتمع على كافة المستويات وقضايا الدولة وأزماتها المختلفة وتناقضات المنظومة الدولية وانتهازية من يديرها، والتي من خلال تلك المشاكل يفسر الباحثين ظاهرة الإرهاب ليست مجدية في فهم «القاعدة» وإرهابها القائم على القتل والتدمير، فلو افترضنا أن كافة تلك المشاكل تم تجاوزها، فإن إرهاب «القاعدة» سيظل ينتج نفسه حتى يتطابق العالم مع منظومته الفكرية.

* كاتب يمني