مستقبل اللغة العربية في فرنسا

TT

بمناسبة انعقاد أول مؤتمر لتعليم اللغة والثقافة العربية في فرنسا بتاريخ 9 أكتوبر الجاري في باريس أتيح لي أن أحضر أخيراً مؤتمراً مهماً عن وضع اللغة العربية في بلاد فيكتور هيغو وشارل ديغول. وكان ذلك في عرين الديمقراطية الفرنسية، أي الجمعية الوطنية أو البرلمان. وهذه هي أول مرة تطرح فيها مشكلة تعليم العربية في بلد أوروبي كبير بمثل هذا الوضوح والتفصيل. ويعود الفضل في هذه المبادرة إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وإلى أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، راعيي المؤتمر. فما هي حقيقة الوضع يا ترى؟. ينبغي العلم بأن فرنسا تضم أكبر جالية عربية في كل أنحاء أوروبا. البعض يعتقد أنها تتراوح بين أربعة وخمسة ملايين، والبعض الآخر يصل بها إلى ستة ملايين. وهو عدد ضخم في الواقع. صحيح أن اخواننا المغاربة والجزائريين والتوانسة وسواهم يشكلون النسبة الأعظم، لكن لا تنبغي الاستهانة بالجالية اللبنانية أو السورية أو المصرية أو المشرقية عموماً.

ينبغي الاعتراف بأن معهد العالم العربي، وهو أيضاً خصوصية فرنسية لا مثيل لها في كل دول الغرب، أصبح يلعب دوراً كبيراً في تعليم لغتنا إلى الأجانب وأبناء الجاليات العربية على حد سواء. كما ويلعب دوراً كبيراً في التعريف بثقافتنا وحضارتنا القديمة والحديثة. وهو ينظم المعارض الكبرى التي تحظى بإقبال هائل من قِبل الجمهور الفرنسي. نذكر من بينها معرض العلوم العربية في عصرها الذهبي، ومعرض البندقية والشرق، ومعرض تراث الجزائر.. الفن والتاريخ، ومعرض جزائر الرسامين من دولاكروا إلى رونوار.. إلخ، والآن يحتل الساحة معرض أم كلثوم، الهرم الرابع، وذلك بمناسبة مائة سنة على ولادتها، ثم معرض كبير عن نابليون بونابرت وحملته على مصر. وهي الحملة التي يؤرخ بها عادة لبداية الأزمنة الحديثة في العالم العربي أو على الأقل لاحتكاكنا بالحداثة الأوروبية.

صحيح انه كان احتكاكا عنيفا أو عسكريا ولكنه أدى الى تعرف العرب والمسلمين على التقنيات والأفكار والعلوم الغربية التي كانوا يجهلونها تماما. كما ادى الى ولادة اكبر مشروع معرفي في ذلك العصر تحت عنوان: وصف مصر.

ولكي ينبغي الاعتراف بان هناك تخوفا في فرنسا وعموم أوروبا والغرب كله من انتشار اللغة العربية وثقافتها اكثر مما يجب. وقد أشار الى ذلك بعض المتدخلين بكل وضوح، والسبب هو ارتباط لغتنا بأحداث العنف التي تحدثها الجماعات الأصولية المسلحة. باختصار فان لغة المتنبي والمعري وابن زيدون وابن رشد والفارابي وابن سينا لا تزال تدفع فاتورة (11) سبتمبر!! هناك تخوف ضمني من ان تعليمها سوف يؤدي الى تعليم الدين بصيغته القديمة الأصولية المليئة بالأحكام السلبية المسبقة عن الغرب واليهود والمسيحيين والحضارة الحديثة، الخ.. وهو تخوف مبالغ فيه لأنه ليس جميع العرب أصوليين ولأن الثقافة العربية الحديثة بالإضافة إلى أعلام التنوير العربي المذكورين سابقاً أو ساواهم يقفون جميعاً خارج إطار الأصولية الظلامية وشعاراتها الديماغوجية التي شوهت سماحة الإسلام. لكن يبقى صحيحاً القول بأن الأفكار الأصولية السوداء أصبحت تتسرّب إلى أبناء الجالية عن طريق بعض الجمعيات التقليدية والجوامع والتنظيمات المتزمتة. وهذا يشكل خطراً على أبناء الجالية بالدرجة الأولى قبل الفرنسيين، لماذا؟، لأنه يجعل منهم أناساً معادين للعلم الحديث والحضارة المستنيرة المتسامحة، وبالتالي فيؤدي بشكل أتوماتيكي إلى فصلهم عن المجتمع الأوروبي الذي يعيشون فيه وعزلهم في غيتوهات مغلقة، وبالتالي فحذار من تصدير الأصولية إلى بلاد فولتير!، فهم لم يبذلوا جهوداً مضنية وعلى مدار ثلاثمائة سنة متواصلة للتخلص من أصوليتهم المسيحية لكي يقبلوا الآن بالأصولية الإسلامية في أكثر نسخها تخلفاً وانحطاطاً. يكفي أنها تسيطر على الشارع التقليدي عندنا من موريتانيا إلى باكستان.

وأخيراً، فإن مستقبل اللغة العربية يتوقف على مدى نجاحنا في إبراز الجانب المشرق من ثقافتنا القديمة والمعاصرة. فالذي يتحدث عن الفارابي وابن رشد وطه حسين، غير الذي يتحدث عن ابن تيمية والخميني وأيمن الظواهري!. ومَن يدعو إلى العلم والعقل ومصالحة الإسلام مع الفلسفة والحداثة، غير مَن يدعو إلى الظلاميات والتعصب والجهل، والله الموفق.