اللوبي السوفيتي في العالم العربي!

TT

ذاع مفهوم «اللوبي» في العالم العربي من تجربة النظام السياسي الأمريكي حيث توجد جماعات الضغط على المؤسسات السياسية المختلفة من أجل اتباع سياسات بعينها، وحيث يمكن أن يصل الأمر إلى تمثيل مصالح أجنبية أشهرها اللوبي الإسرائيلي والتايواني واليوناني وغيرها. ورغم أن مثل هذا المفهوم لا وجود له من الناحية القانونية والمؤسسية في العالم العربي فإن جماعات الضغط موجودة بأشكال مختلفة، حيث تتشابك المصالح والعلاقات الاقتصادية والفكرية، وطالما أنه من الممكن صياغة السياسات المختلفة على ضوء المصلحة الوطنية أو القومية. كل ذلك قد يكون غير مقبول ولكنه مفهوم باعتباره واحدا من حقائق الواقع؛ ولكن ما ليس مقبولا ولا مفهوما أن يوجد «لوبي» عربي كبير للاتحاد السوفيتي الذي لم يعد له وجود لا في الواقع ولا في الخيال وانتهى إلى غير رجعه منذ عام 1990 وحل محل خمس عشرة جمهورية ذات سيادة كاملة وأصبحت أعضاء في الأمم المتحدة وكلها لها علاقات تجارية واقتصادية وسياسية مع الدول العربية المختلفة.

والحقيقة أن كل ذلك قد يبدو غريبا لو تم تفسيره بتلك النزعة «الماضوية» للتفكير العربي في العموم والذي جعل الشيخ يوسف القرضاوي ومعه جماعة الإخوان المسلمين يعيدون مرة أخرى مع جماعة الشيعة والسنة ذلك الانقسام الذي جرى منذ أربعة عشر قرنا حول من له الحق في الخلافة التي سقطت آخر معالمها ووجودها المؤسسي عام 1924 من القرن الماضي. فمثل هذا التفسير القائم على «الحنين» أو حتى عدم القدرة علي مغادرة الماضي، لا يفسر تلك الحالة من التعصب والحماس والذيوع لأفكار وسياسات انتهت أو ماتت أو لم يعد لها وجود لأنها كانت قد وصلت في الأصل إلى الإفلاس أو نفاد وظيفتها الدنيوية أو وجدها أصحابها من الأتراك ـ في حالة الخلافة ـ أو الروس والقوميات السوفيتية الأخرى ـ في حالة الاتحاد السوفيتي ـ أنها كانت تمثل كارثة تاريخية، ووصلت إلى نوع من التخلف المادي والمعنوي حتى لم تعد تناسب العالم المعاصر، ومن ثم وجب البحث عن بديل أو بدائل لها. الابتكار العربي في هذه الحالة هو انه من حق الأتراك أن يتركوا موضوع الخلافة، ومن حق الروس أن يتخلوا عن الاتحاد السوفيتي ويلعنوا أيامه، ولكن بعضا غير قليل من العرب لن يتخلى عن الخلافة ولا الاتحاد السوفيتي رغم أن الأولى استندت إلى وقائع التاريخ الإسلامي المستندة إلى ديانة التوحيد والثانية قامت على إنكار الذات الإلهية.

ولكن موضوعنا هذه المرة ليس الخلافة وإحياءها، وإنما إحياء الاتحاد السوفيتي في الدنيا كلما جرت واقعة من وقائع العلاقات الدولية؛ وكلما ألقى السيد فلادمير بوتين من موقعه كرئيس للجمهورية، أو موقعه في رئاسة الوزراء، حيث الرجل لديه قدرة فائقة على تعدد المواقع والثبات في المقدمة في كل الأوقات، كلمة متشددة إزاء العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة قفز اللوبي السوفيتي العربي فورا مصفقا ومعلنا عن العودة السوفيتية المباركة إلى محفل العلاقات الدولية. ولكن القفزة «السوفيتية» الكبرى فقد جاءت مع الغزو الروسي لجورجيا، وتأييدها للحركات الانفصالية فيها، بل انها كانت الدولة الوحيدة في العالم التي اعترفت بدولتي «أبخازيا» و «أوستيا الجنوبية». وفي الظروف العادية، حيث لا يوجد تاريخ سوفيتي، فإن العالم العربي لديه رفض غريزي لقيام دولة كبرى بغزو دولة صغيرة؛ كما أن لديه رفضا غريزيا أيضا لفكرة تأييد الحركات الانفصالية. ومثل هذه المواقف «الغريزية» مفهومة على ضوء التاريخ الاستعماري في العالم العربي، والجرائم الإسرائيلية إزاء الشعب الفلسطيني، والخوف من الاختلال في توازن القوى بين الدول العربية وجيرانها الأقوياء، والخوف من تفتت الدولة العربية المعاصرة بسبب النزعات الانفصالية. وفى الوقت الراهن فإن هناك خوفا عربيا علي مصير العراق والسودان والصومال ولبنان، ومن يعرف ماذا سوف يأتي في المستقبل، من الخضوع لقوي أجنبية عاتية والانقسام والتفتت والحرب الأهلية. كل ذلك كان كافيا لكي يرفض العرب جميعا الغزو الروسي لجورجيا، ولكن ما حدث كان مزيجا من الصمت لدى الدول، وإشهارا للترحيب لدى الإعلام لأن الغزو أعلن عن عودة الاتحاد السوفيتي مرة أخرى إلى الساحة الدولية وكأنه كان إعلانا عن قيام الدولة العربية الواحدة أو دخول العرب إلى مراتب الدول المتقدمة.

الأخطر من ذلك كله حدث مع الأزمة المالية الحالية في العالم، حيث عبرت «العقلية السوفيتية» عن نفسها في العالم العربي بحماس غريب. فمن ناحية لم يحسب أحد مواقعنا في الأزمة الراهنة، حيث شهدت ضمن ما شهدت انهيارا حقيقيا في أسعار النفط حيث هبط من 147 دولارا للبرميل الى 75 دولارا أي إلى النصف تماما. وبعد أن كانت خطط التنمية في العديد من الدول العربية تستعد لسعر برميل قدره ما بين 150 دولارا و 200 دولار كانت الأوضاع الجديدة إذا بها فجأة ونتيجة الأزمة العالمية المعاصرة تنخفض إلى نصف ما كانت عليه؛ وبشكل من الأشكال فإن معظم الثروة العربية، واحتياطياتها المالية موجودة في بنوك ومؤسسات العالم الغربي. ولم يكن ذلك اختيارا عربيا خالصا، ولكنه طالما كانت أسواق الغرب هي الأسواق الرئيسة للنفط أو لغيره من السلع، وكان الدولار واليورو والين هي العملات الرئيسة في عالم اليوم فإنه كان من الطبيعي أن تكون الأموال العربية مستثمرة في هذه الأسواق سواء كانت في أذون خزانة أو في استثمارات مختلفة. ومعنى ذلك أنه كانت هناك «مصالح» عربية طائلة في العالم الغربي، خاصة الولايات المتحدة، ومن ثم في صحتها الاقتصادية.

ما جري في العالم العربي وصحافته وإعلامه كان مدهشا، حيث كانت جهود فهم الأزمة محدودة، كما كانت محاولات حسابات تأثيراتها علينا ضعيفة، ومحاولات البحث عن طريق أو طرق أخرى للتعامل مع ما حدث شبه معدومة، وما حدث أن جماعة منا قررت الموت المبكر للولايات المتحدة، وقيام الاتحاد السوفيتي حيث تعود الأيام السعيدة للقطبية الثنائية أو المتعددة، وفوق ذلك نهاية الرأسمالية لكي تترك للدولة الفرصة في إدارة اقتصاديات العالم، تماما كما كان الحال في الأيام السوفيتية أو الاشتراكية لا فرق. الغريب في الأمر أن «اللوبي السوفيتي» لم يكن خالصا من الاشتراكيين القدامى، بل انضمت إليهم مجموعات من «الإسلاميين» الجدد والقدامى الذين طرحوا أن النظام «الإسلامي» هو البديل للنظامين الاشتراكي والرأسمالي من حيث الشكل، أما في الجوهر فلم يكن النظام «الإسلامي» سوى عملية من عمليات التدخل الفاحش للدولة الذي هو جوهر النظام السوفيتي حيث تصير الدولة هي المحتكر الرأسمالي الأول والأخير.

ومرة أخرى كانت الحالة في العالم العربي هي «الاستثناء» الفكري في العالم، فبينما كان المثقفون في دول مثل الهند والصين وبالطبع أوروبا والولايات المتحدة، يحللون ما جرى ويدفعون بالنقد تجاهه ومحاولة تصحيحه من منطلق المشاركة في النظام الاقتصادي العالمي؛ كان هؤلاء في العالم العربي تقودهم العقلية السوفيتية القديمة يشمتون فيما جرى ويتمنون وصوله إلى مرحلة التدمير الكامل وكأنهم ومواطنيهم لن يغرقوا مع السفينة إذا غرقت ويطفون ويتعافون معها إذا طفت وتعافت. تماما كما حدث منذ عقدين، عندما ظهرت العولمة كعلامة مميزة للنظام العالمي المعاصر كان المثقفون في العالم في ناحية يحتفون بالتطور الإنساني ما عدا قلة من اليساريين؛ فإن الكتاب والمتحدثين العرب ذهبوا في اتجاه هذه القلة معبرين عن أشواقهم السوفيتية. وتماما كما حدث في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عندما كانت نظرية المؤامرة، والتعاطف مع القاعدة وأسامة بن لادن شائعة في العالم العربي بأكثر من أي مكان آخر في العالم بما فيه العالم الإسلامي، حيث كانت استطلاعات الرأي العام في تركيا ونيجيريا وإندونيسيا مختلفة تماما عن نتائج هذه الاستطلاعات في العالم العربي. كل ذلك لأن الفيرس السوفيتي والحرب الباردة ما زالا قائمين ومعششين بالتمني والرغبة في العواصم العربية سواء كان على المقاهي أو الصحف أو محطات التلفزيون!