اهتزاز الامبراطورية الأميركية.. أم نهاية النظام الاقتصادي المطلق الحرية

TT

نجح الرئيس الأميركي جورج بوش في تجنيب المدن الاميركية شر الاعتداءات الارهابية، بعد 11 سبتمبر(أيلول) 2001، بفضل التدابير الأمنية الوقائية الصارمة. ولكن هذه «المأثرة» قد تكون الوحيدة التي سيخلفها وراءه. فالرئيس الاميركي المقبل، سواء كان جمهورياً أو ديموقراطياً، سوف يرث عنه جبلا من الهموم والمشاكل، الداخلية والدولية، السياسية والاقتصادية والمالية. كان آخرها هذا الانهيار المالي الضخم الذي لم تشهد الولايات المتحدة ولا العالم الرأسمالي الغربي، مثله، منذ نيف وقرن.

ان الصورة المرتسمة عن الولايات المتحدة، اليوم، في أذهان الدول والشعوب، هي صورة مارد ضخم تتخبط قدماه بوحول الحروب الساخنة التي يخوضها مباشرة في العراق وافغانستان واماكن اخرى، ناهيك بالحرب الباردة الجديدة التي نشبت مع الاتحاد الروسي. وما يرهق الخزينة الاميركية من مديونية لم تعرفها من قبل، وما يشل ذراعيه من ازمة مالية لا يعرف احد الى اين ستذهب بالاقتصاد الاميركي، وباقتصاد العالم.

هل هي بداية نهاية «الامبراطورية الاميركية»، كما يردد البعض؟ ام انها مجرد مرحلة صعبة تمر بها هذه الدولة الكبرى، ولسوف تجتازها او تتغلب على صعابها؟ الاحتمال الثاني هو الارجح، ولسببين: الاول هو ان الولايات المتحدة ما زالت ـ وستبقى لعقد او عقدين ـ تملك من الطاقات والامكانات، في شتى ميادين الدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا، ما يؤهلها لاحتلال المكانة الاولى بين دول العالم. والثاني وهو ان الاقتصاد العالمي برمته بات، اليوم، مرتبطا بالاقتصاد الاميركي، وستجد كل الدول، الاوروبية منها والآسيوية والعربية، نفسها مضطرة الى مساعدة الولايات المتحدة والتضامن معها لاجتياز هذه المرحلة الصعبة. إلا ان السياسة الاميركية في العالم، بوجه عام، واستراتيجية الدفاع ومقاومة الارهاب، بوجه خاص، لن تبقيا على ما كانتا عليه بولايتي الرئيس بوش، أيا كان الرئيس الاميركي المقبل، وأيا كانت الاكثرية في الكونغرس؛ وفي مقدمها نظرية «الحرب الوقائية» التي حملت القوات الاميركية الى العراق وافغانستان وقد تحملها الى باكستان ودول اخرى في العالم، وهي حروب مرشحة لأن تتحول الى فيتنامات اخرى، كونها حروبا لا متوازنة، ليس هناك نصر عسكري حاسم فيها. بالاضافة الى انها شوهت سمعة الولايات المتحدة في العالم، والعالمين العربي والاسلامي، على الأخص، إن لم نقل اكسبتها عداء شعوب العالم الثالث. هناك، اليوم شبه اجماع بين الاميركيين وفي العالم، على ضرورة تغيير الولايات المتحدة، لسياستها الدفاعية والبيئية والاقتصادية، لا لإنقاذ نفسها من تورطها في حروب تستنفذ طاقاتها فحسب، بل لاستعادة ثقة الشعوب والدول بها ولتلافي عودة العالم الى حرب باردة جديدة. ولكن السؤال هو: في اي اتجاه يذهب هذا التغيير؟ هل هو التخلي عن الدور الذي انتدبت نفسها له ومن عناوينه: الحرب على الارهاب وتعميم الديموقراطية والعودة الى نظرية الانعزالية، تاركة العالم يتخبط في مشاكله وازماته؟ ام هو تليين المواقف واعتماد الحوار والمفاوضات والتسويات، لحل الازمات العالقة والمرشحة للانفجار؟ حتى ولو بلغت نقمة الشعب الاميركي على سياسة «الريادة» الاميركية للعالم، حداً أعلى مما هي عليه اليوم، وارتفعت كلفة محاربة الارهاب والحرب في العراق وافغانستان، الى اعلى مما تتحمله الخزينة الاميركية، فان الولايات المتحدة لا تستطيع التراجع والانسحاب او الاعتراف بهزيمة في العراق وافغانستان، ولا التخلي كلياً وسريعاً عن الدور الذي تلعبه، اليوم، في العالم. وان كانت مضطرة الى البحث والعثور عن بدائل لسياستها الراهنة في الشرق الاوسط والبلقان ودول شرق اوروبا. ناهيك باميركا الجنوبية.

يحلو للبعض تحميل الرئيس بوش مسؤولية هذه الحالة الاميركية المتأزمة في شتى الميادين. ولا شك في انه يتحمل مسؤولية كبيرة بسبب الخيارات التي اعتمدها بعد اعلانه الحرب على الارهاب وارهاق الدولة الاميركية، من جرائها، بالديون. ولكن المسؤولية الحقيقية في ما آلت اليه الولايات المتحدة، في اوضاعها المالية والاقتصادية وعلاقاتها الخارجية، انما هي نتيجة حتمية للتناقض بين ما ترفعه من شعارات جذابة وما تقوم او تحجم عنه، في الواقع. ففي حربها على الارهاب لم تكن مضطرة الى احتلال العراق، وفي تدخلها في النزاع العربي ـ الاسرائيلي، لم يكن دورها صادقا مع العرب ولا حاسما مع اسرائيل. وفي محاصرتها الاستراتيجية للاتحاد الروسي، دفعت هذا الاخير الى اشعال الحرب الباردة من جديد.

لقد هزت ازمة المصارف الاميركية والمضاربات المالية «الفالتة» اركان النظام الرأسمالي الليبرالي واقتصاد السوق. وتساءل كثيرون عن صحة وسلامة هذا النظام الذي انتصر على الاشتراكية منذ عشرين عاماً، واعتبره البعض النظام النهائي الذي سيحكم العالم. وبالرغم من تمسك الدول الغربية الكبرى بفلسفة النظام وأسسه وقواعده، إلا انها اضطرت الى التدخل لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار الكامل. ولسوف تتبع هذا التدخل تدخلات اضطرارية قادمة لمراقبة وضبط وربما توجيه الاقتصاد والمضاربات المالية، بنوع خاص.

انها صفحة من تاريخ الولايات المتحدة والرأسمالية الليبرالية، والنظام العالمي، طويت، وقد تستغرق لملمة خسائرها وضحاياها، سنوات. أما تداعياتها على الحرب على الارهاب والاستراتيجية الدفاعية الاميركية في الشرق الاوسط، فقد تكون في مصلحة القضايا العربية والاسلامية، اذا عرف المسؤولون العرب والمسلمون كيف يغتنمون فرصتها.. وتكون العكس، اذا تركوا لإسرائيل فرصة تعميق الهوة بين الولايات المتحدة والعرب والمسلمين، كما حدث من قبل.