الأمان.. ثم صحبة ماجد

TT

ما أبعد الفرق بين سائق التاكسي في باريس وسائقها في لندن. ومَنْ خبرَ وترددَ على تلك المدينتين يعرفْ ذلك. فبقدر أن الأول أحمق وانفعالي ومتسرع، فالثاني مترفع ومتأدِّب ومتحفظ.

وبحكم أنني أتردد على باريس سنوياً (لأمرٍ ما في نفس يعقوب المشعلاني)، فكان لا بد، والحال كذلك، أن أتعامل وألجأ إلى التاكسي لقضاء حاجاتي ومشاويري ومآربي المشبوهة، فألقى الكثيرَ من الملاحظات والتقريع والاستفزازات من هؤلاءِ السائقين الذين يعتقدون أنهم خلاصة الإنسان على وجه هذه الأرض، في الوقت الذي مثلما نقول نحن بلهجتنا الدارجة: ففيهم (عوير وصوير واللي ما فيه خير).

لذا، وفي ساعة غضب يعربية جاهلية مني، قررت نهائياً والى غير رجعة عدم ركوب التاكسيات في باريس (وايش ما يكون يكون)، حتى لو دحرجتني الرياح، وأغرقتني الأمطار، أو خلخل البردُ عظامي ومفاصلي أو فاتتني المواعيد والمصالح، أو حتى لو تشققت وتقرحت قدماي من كثرة المشي وطول المسافات.

وهذا ما حصل فعلاً، وبدأت أتعلم ركوب (المترو) مثلما يتعلم الطفل ركوب الدراجة، وأقطع باريس من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، مقتدياً بعلامة (+) يومياً تقريباً. اقطع هذه المدينة الجميلة كل يوم على غير هدى وغير هدف، اللهم إلاّ الاستمتاع والتفرس في ملامح عباد الله، إلى درجة أنني أصبحت وجهاً مألوفاً لكل القاطرات، ومرجعاً لكل من أراد أن يقرأ الخرائطَ ويريد أن يعرف الاتجاهات.

ضعت في البداية كثيراً ولم يفت ذلك في عضدي، لأنني تعودت على الضياع منذ نعومة أظفاري، وأصبح مع تقادم الأيام على رأس هواياتي، فاليوم الذي لا أضيع فيه (ما ينحسبش من عمري) مثلما تقول أم كلثوم.

ومن عشرة أعوام إلى الآن، لم أركبْ سيارة تاكسي واحدة في باريس، لهذا فارق الصداعُ رأسي، وتزاحمت حكايات الغرام في قلبي، وغزت السعادة أطراف أنامل قدميَّ.

أما في لندن، فنصف مصروفاتي أدفعها لسائقي التاكسيات عن طيب خاطر مع قليل من (البأشيش) والتشكرات والابتسامات. وعرفت أخيراً أن سائقي التاكسيات في تلك المدينة، يقارب عددهم العشرين ألفاً، وهم يعملون بأجرٍ يومي عند ملاّك السيارات، وهم يحتفظون بأربعين في المائة مما يسجله العدادُ، وزيادة على ذلك (فالبأشيش) لهم وحدهم، وبعضهم يملكون سياراتهم، والقواعد التي يخضع لها هؤلاء السائقون يرجع تاريخ معظمها إلى قانون (هاكني لعربات الركوب) الصادر في لندن عام 1831، عندما كانت الخيول هي التي تجر العربات ـ وأرجوكم لا تسألوني عن (هاكني) لأنني لا أعرفها، ولو كنت أعرفها لما قلتها لكم ـ

وهذا القانون يجبر السائقَ على التوقف لك لو أشرْتَ له. ومع ذلك من النادر أن تؤشر لسائق ولا يتوقف لك، إلاّ إذا كانت هناك مباراة كرة قدم بين مانشستر يونايتد وآرسنال منقولة على الهواء، عندها (تأكل هوا أحسن لك).

وفي أحد الأيام ركبت مع سائقة حسناء، ومن شدّة لطفها وأدبها وحيائها أخذت رقم هاتفها بكل براءة وشفافية، وأصبحت لا أقضي مشاويري إلا بصحبة سيارتها، ولم أشعر بالأمان المستتب إلاّ في حضرتها ـ الله يذكرها بالخير ويحسن بشرتها ـ

وهذا هو ما يريده ويصبو له السائح: الأمان ثم الأمان ثم الأمان، ثم صحبة ماجد.

وإذا كنت غلطاناً، فلا مانع عندي من أن يصححني الفهمان.

[email protected]