أيام فاتت

TT

كنت أستمتع بمجالسة أستاذنا الراحل حسن الكرمي وزميلنا محمد البيبي رحمهما الله في كانتين الإذاعة البريطانية بلندن. ولكنني كثيرا ما لاحظت سحب الكآبة تخيم على وجه الأستاذ الكرمي وهو يتناول غداءه من الساندويشات والشاي الإنجليزي. سألته يوما مالك يا أستاذ؟ أراك مهموما دائما. خير إنشا الله؟

هز رأسه بقنوط وألم وقال: كيف لا؟ ما الذي يسرني من هذه الحياة؟ ثم مضى فقال: إنني كنت مفتشا للمعارف في حكومة الانتداب بفلسطين. كنت لا أجالس غير كبار الجنرالية والبروفسورية الإنجليز. لا أذهب لتفتيش مدارس طولكرم أو نابلس أو غيرها من المدن إلا وخرج القوم لاستقبالي وذبحوا الذبائح وأقاموا الولائم لتكريمي. وأين ذلك من حياتي الراهنة؟ أجلس في هذا الكانتين الحقير وآكل ساندويشات جبن ماسخ وأقضي وقتي أستمع لتفاهات الأخ البيبي؟

الحمد لله لم يقل وبذاءات القشطيني. قال ذلك ثم انطلق ليروي لي شيئا من سجله الحافل. قال: مثلي في هذا يذكرني بمثل الأميرلاي مراد باشا القائد العثماني في فلسطين أثناء الحرب العظمى. انتهت الحرب باستسلام الجيش التركي وهزيمة الإمبراطورية العثمانية. تمزق الجيش وتشردت قياداته. لم يعرف مراد باشا أين يتوجه. تكرم عليه السيد توفيق أفندي صاحب مسافرخانة صغيرة في القدس وأعطاه غرفة في فندقه المتواضع. لم يبق للأميرالاي ما يفعله غير أن يجلس كل يوم في زاوية من مقهى الفندق ويتفرج على المارة ويحادث السيد توفيق أفندي. وكما نتوقع، راح القائد التركي يعاني من الكآبة والهم. يتأوه ويئن ويردد لا حول ولا قوة إلا بالله... وهكذا. تألم يوسف أفندي على تألمه فسأله: ليش يا مراد باشا مهموم بهذا الشكل؟ على الأقل عندك مكان تأوي إليه ومكان تقضي فيه النهار براحة. أجابه الجنرال التركي قائلا: يا توفيق أفندي، أنا في زماني كنت لا أرفع رأسي من الفراش صباحا إلا ويكون الخادم واقفا يقدم لي فنجان القهوة الشكرلي. أين أنا الآن من كل ذلك؟ تألم له السيد توفيق فوعده بتحقيق ذلك له. كل يوم يأتيه خادم الفندق بفنجان القهوة صباحا.

مرت أيام ولكن مراد باشا لم ينقطع من الأنين والشكوى. عاد توفيق أفندي فسأله، ما الذي يؤلمك الآن يا مراد باشا؟ لقد أمرنا لك بفنجان القهوة الصباحية. أجابه فقال: أين حياتي هذه من حياة الأمس؟ كنت في زماني لا انتهي من القهوة، إلا ويأتي خادم آخر يحمل لي الفطور من كباب وطرشي وطماطم وخبز حار. أفطر على ملأي ثم أخرج. أمر السيد يوسف بتجهيز ذلك. ولكن الأميرالاي استمر في الأنين والشكوى فعاد توفيق أفندي لسؤاله: ما الذي يوجعك يا سيدي؟ قال: أنا في زماني كنت لا أجالس غير الوزراء وكبار القواد. أين ذلك من عيشي الحالي؟ لا شأن لي غير أن اقضي نهاري مع الجايجي يوسف أفندي؟

قال أستاذنا الكرمي. وين أنا يا خالد في هالأيام النحسة؟ قاعد في هذا الكانتين استمع لكلام البيبي؟

www.kishtainiat.blogspot.com