«الإخوان» نحو التمزق على خطى الأحزاب القومية

TT

يرفض «الإخوان المسلمون»، بكل فروعهم، الاعتراف بأن داء التفتُّت والانقسام، الذي دمّر الأحزاب والحركات القومية واليسارية العربية، بات يتسرب إليهم، وأنه تجاوز الخطوط الحُمر وغدا يهدد الوحدة التنظيمية والفكرية لبعض هذه الفروع، وهذا يجعلهم كمن أكل أحشاءه المرض، لكنه يواصل العناد ولا يُقر بذلك إلى أن يصبح العلاج مستحيلاً وغير ممكن، حتى وإن توفّر له أفضل الأطباء وأرقى المستشفيات، وفقاً لأهم المواصفات العالمية.

قبل أن ينقسم حزب «البعث» على نفسه ذلك الانقسام الذي حوّله بعد انقلاب الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966، إلى حزبين يحكم كل واحد منهما دولة، أصبحت ألدّ أعداء الدولة الثانية التي يحكمها الحزب الآخر، هما العراق وسوريا كان البعثيون مثلهم مثل «الإخوان المسلمين» الآن، يرفضون الاعتراف بأمراضهم ولا يتردّدون في اتهام كل مَن أشار إلى تعارضاتهم وخلافاتهم الداخلية بأنه عميل للامبريالية والصهيونية العالمية.

في سنوات احتدام الصراع بين الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وحزب «البعث» بجناحيه، الجناح السوري والجناح العراقي، وكان ذلك بعد انهيار الوحدة المصرية ـ السورية، في مطلع ستينات القرن الماضي، كان البعثيون يردّون على محمد حسنين هيكل، الذي كان يُروِّج لانقسام حزبهم قبل أن يقع ذلك الانقسام، بهتاف كانوا يردّدونه بأصوات مرتفعة هو: «بعثٌ واحد لا بعثين إخرس حسنين».

وكانت حركة القوميين العرب، بزعامة الدكتور جورج حبش، تفعل أيضاً ما يفعله «الإخوان المسلمون» الآن، وهي بقيت ترفض الاعتراف بخلافاتها ومشاكلها وإشكالاتها الداخلية، الشخصية والسياسية والفكرية والتنظيمية، وبقيت تواجه كل مَن تحدث عن هذه الخلافات بشعارها الصاخب القائل: «دم حديد نار.. وحدة تحرُّر ثار»، إلى أن ضربها داء الانقسام الضربة المميتة القاتلة وأنهاها شكلاً ومضموناً وحولها من تنظيم قومي إلى فصائل وأحزاب وتنظيمات قطرية لا يلتقي أيّ منها مع التنظيمات «الشقيقة» المماثلة بالنسبة للذكريات القديمة والبكاء على المدِّ الناصري المتلاشي والنواح فوق قبر الحركة القومية العربية.

لم تصمد حركة «الدم والحديد والنار» أمام زلزال هزيمة يونيو (حزيران) 1967، فقبل أقل من عام على تلك الهزيمة النكراء، حوّل مؤسسها الدكتور جورج حبش ومعه رفيق دربه وصديقه الدكتور وديع حداد، فرعها الفلسطيني والأردني إلى تنظيم فلسطيني هو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي انقسمت هي بدورها أكثر من مرة وخرجت منها الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل، والجبهة الديمقراطية بزعامة نايف حواتمة، والجبهة الثورية بقيادة شاب عراقي، انتهى مقتولا بعد عودته من بيروت إلى بغداد بحادث سيارة، يدعى «أبو شهاب».

وبالطبع فإن الجبهة الديمقراطية لم تصمد أمام ضربات التشظي والانقسام، التي غدت ظاهرة فلسطينية لا تزال مستمرة حتى الآن، فقد خرج منها السيد ياسر عبد ربه بمجموعة أساسية هي التي تحمل حاليا اسم «حزب فدا»، وأيضاً انشقت الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة بدورها وخرجت منها جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة «أبو العباس»، وهذه بقيت تتكاثر بالطريقة «الأميبية» و«فرّخت» سلسلة من الجبهات المايكروسكوبية التي من الصعب حصرها.

لقد تحولت حركة القوميين العرب في لبنان إلى منظمة العمل الشيوعي بقيادة محسن إبراهيم، وتحولت في اليمن الجنوبي (سابقاً) إلى الجبهة القومية التي بعد الاستقلال مباشرة أخذت تنقسم على نفسها في حملة تصفيات تواصلت داخل الحزب الاشتراكي الذي ورثها تنظيمياً وسُلطوياً إلى أن كانت النهاية في تلك المذبحة الدموية التي أكل خلالها قادة القبائل الماركسية بعضهم بعضاً وانتهوا تلك النهاية المزرية المعروفة.

كذلك فإن الأحزاب الشيوعية (العربية) كلها قد انقسمت وتشظت أكثر من مرة وتحولت إلى مجموعات صغيرة متناحرة كما حدث للحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي السوري والحزب الشيوعي اللبناني.. وأيضاً الحزب الشيوعي السوداني والحزب الشيوعي العراقي والمجموعات الصغيرة اليسارية والماوية والتروتسكية.

لقد كان المفترض أن يتعلم «الإخوان المسلمون» من هذا التاريخ الطويل وأن يعترفوا أولاً بأمراضهم كمقدمة لمعالجتها وعلى أساس الحديث النبوي الشريف القائل: «السعيد مَن اتّعظ بغيره والشقيُّ مَن اتعظ بنفسه»، لكنهم لم يفعلوا هذا وهم ما زالوا يصرون على أن قلعتهم مُحصّنة وأن كل مَن يتحدث عن أي خلافات داخل صفوفهم، إما عميل للاستكبار الدولي أو جاسوس للصهيونية العالمية.

هناك صراع أجيال داخل «إخوان» مصر، بات يعلن عن نفسه وعن توجهاته، رغم النفي القيادي المتواصل، وهناك استقطاب داخل «إخوان» الأردن اتخذ أشكالاً متعددة، وهناك أزمة طاحنة داخل «إخوان» سوريا، ازدادت تفجُّراً في الاجتماع الأخير الذي عقده مجلس الشورى في تركيا، وهناك ابتلاع حركة «حماس» لـ«إخوان» الضفة الغربية وغزة، وهناك نيران الخلاف التي لا تزال متأجِّجة بين «الإخوان» الكويتيين وأشقائهم الأردنيين بسبب تأييد هؤلاء الأخيرين لغزو صدام حسين للكويت والانخراط في طوابير تبريره.

والمشكلة بالنسبة لانقسامات الأحزاب والقوى القومية واليسارية، وبالنسبة لتنظيمات الإسلام السياسي المتمثلة في «الإخوان المسلمين»، تتجسد في غياب الديمقراطية الداخلية عن كل هذه التنظيمات وهذه القوى والأحزاب وتتجسد أيضاً في ظاهرة الزعيم الأوحد والقائد من المهد إلى اللحد، وفي أن الوصول إلى السلطة، والمقصود هنا هو حزب «البعث»، قد فجّر صراعات وتسبب في انقلابات عسكرية جعلت الرفاق يأكلون بعضهم بعضاً ويأكلون غيرهم!

ثم ان هناك «أم المشاكل»، وهي مشكلة أن هذه التنظيمات كلها القومية والإسلاموية، قد حدّدت منطلقاتها النظرية بإطارات خيالية مفترضة ما لبثت أن ارتطمت بواقع التجزئة المؤلم، وهذا هو الذي قصده العلامة اللبناني الكبير محمد مهدي شمس الدين عندما قال: «إن الأمة انتزاع تجريدي، وإن هذا التجريد لا أساس فقهياً له، كما أنه لا قيمة عملية له، فالأمة خاضعة واقعياً لتقسيمات وكيانات وأنظمة مصالح».