أمواج.. وأعاصير

TT

منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً سابقة، أعطاني أحد أصدقائي الماركسيين أحد الكتب التي وضعها لينين ويحمل اسم «ما الذي يجب فعله». وعرض الكتاب في ثناياه تفسيراً مذهلاً لهوية الثورة. وأود استغلال التفسير الذي ساقه لينين من منظور جديد، أعني أن التفسير الذي وضعه لينين يطرح صورة مناسبة للأزمة الاقتصادية الراهنة التي يجابهها العالم.

يقول لينين إنه في أحد أكثر مواسم الشتاء برودة، كان هناك رجل تحاصره الرياح الباردة والأعاصير داخل كوخه الصغير الواقع وسط صحراء مترامية الأطراف. وكان من المستحيل للرجل أن ينجو ويبقى على قيد الحياة، في ظل هذا الوضع، ولم يكن باستطاعته حماية نفسه من دون وجود النار، لكن لم تتوفر بالقرب منه أية أخشاب، فيما عدا تلك التي تم استخدامها في بناء الجدران. وعليه، حطم قطعة من الجدار ليشعل نار. لبضع دقائق، أصبح الجو دافئاً وممتعاً، لكن بعد فترة تجمد الرجل بسبب برودة الطقس ولتدميره الملاذ الذي كان يحتمي فيه بيديه.

لقد شهدنا انهيار الاتحاد السوفياتي، وأصبح الموروث الوحيد المتبقي منه صورة غورباتشوف أثناء عودته من أحد المؤتمرات وبيده حقيبة جلدية فاخرة طراز لويس فيتون.

وعلى مدار الأسابيع السابقة، طرح تساؤل مهم للغاية نفسه: هل سنشهد انهيار الرأسمالية الغربية؟ هل تشعل الرأسمالية النار في كوخها الخشبي؟ في الواقع، هناك اختلاف جوهري بين انهيار الاتحاد السوفياتي والتداعي المحتمل للرأسمالية الغربية. إنها رسالة إلى الاتحاد السوفياتي السابق وقائده الذي ما زال على قيد الحياة، لكن مع حقيبته الجلدية الفاخرة! وتعني أن الرأسمالية استغلت حطام الاشتراكية لبناء أو توسيع منزلها.

في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، نشر فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ والرجل الأخير»، الذي أكد خلاله أن سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة ضمنا مستقبلاً ذهبياً للديمقراطية الليبرالية التي تتزعمها الولايات المتحدة.

إلا أنه بدل رأيه على ما يبدو، حيث انتقد خلال كتابه الأخير «أميركا في مفترق الطرق» إدارة بوش، وفي آخر مقالاته وصف الولايات المتحدة بأنها شركة ضخمة مُنيت بالفشل.

إذاً، ماذا أصاب الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟ تحاول معظم التفسيرات التي ظهرت خلال الأيام الأخيرة طرح أسباب اقتصادية متنوعة وراء الأزمة الاقتصادية الراهنة على المستوى العالمي، خاصة داخل الولايات المتحدة. ومن الواضح، أن العالم يجابه الآن أزمة غريبة من نوعها. على سبيل المثال، خلال الأسبوع السابق، فقدت السهم 2.3 تريليون دولار من قيمتها. ولا تزال المخاوف قائمة بشأن صحة القطاع المصرفي. كما تراجع مؤشر نيكاي الياباني بمقدار 10%، في الوقت الذي انهارت شركة ياماتو للتأمين. وأنهت بورصة هونغ كونغ تعاملات الأسبوع بانخفاض بلغ 7%، ما يشكل أدنى مستوياتها منذ ثلاث سنوات. أما بورصة سنغافورة فتراجعت بنسبة 6.59%. وفي غضون 48 ساعة فقط من رفض مجلس النواب مقترح بوش بضخ 700 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد الأميركي، خسرت وول ستريت 1000 مليار دولار في يوم واحد! كل ذلك يمثل لغزاً بالغ التعقيد. من جانبه، يعتقد بوش أن باستطاعته إدارة الأزمة من خلال اتخاذ قرارات قوية. في المقابل، أعرب دومينيك ستراوس، مدير صندوق النقد الدولي، عن اعتقاده بأنه يتحتم على جميع الدول، العمل بسرعة وقوة أكبر وإبداء قدر اكبر من التعاون من أجل إيجاد حل للمشكلات الاقتصادية، مؤكداً أنه ليس هناك حل محلي لأزمة بمثل هذا الحجم!

أما غوردون براون فطرح وجهات نظره حيال الأمة في مقال تم نشره منذ أيام قليلة. في ثنايا المثال، اعترف براون بأنه فقط من خلال أكثر الإجراءات جرأة وتنسيقاً بمختلف أنحاء العالم، يُمكن وضع الأزمة الراهنة تحت السيطرة.

من جانبي، أعتقد أن كل السياسيين وصناع السياسات الذي يعكفون على مناقشة الأمة الاقتصادية الحالية نسوا السبب الرئيس وراءها. من المنظور المنطقي، هناك نوعان من الجهل: أولهما: الجهل البسيط، وثانيهما: الجهل المركب. في الجهل البسيط لا تتوافر لدينا أية معلومات بشأن مشكلة ما، ونكون مدركين لهذا الأمر! أما في النمط الثاني، لا نعلم أي شيء، ومع ذلك، نكون على قناعة بأننا نعلم كل شيء!

والتساؤل الآن هل فعلاً لا يدرك غوردون براون أو أي من الخبراء أمثال مدير صندوق النقد الدولي السبب الجذري وراء الأزمة؟ في الواقع، من الصعب للغاية تصديق أنهم جميعاً ليست لديهم أدنى فكرة عن الهوية الحقيقية للرأسمالية ودور حربي أفغانستان والعراق في هذه الكارثة. ولدينا نموذج مهم للغاية يمكن من خلال استغلاله التعرف على ومقارنة الأوضاع خلال العام الأخير من رئاسة بيل كلينتون والعام الأخير من رئاسة جورج بوش.

من ناحيته، أعلن كلينتون خلال آخر خطاب لحالة الاتحاد له ألقاه في 27 يناير (كانون الثاني) 2000: «إننا محظوظون لأننا نعيش هذه اللحظة التاريخية، حيث لم يسبق لأمتنا قط التمتع في ذات الوقت بمثل هذا القدر من الرخاء والتقدم الاجتماعي، مع مجابهتنا مثل هذا القدر الضئيل من الأزمات الداخلية والتهديدات الخارجية. ولم نحظ من قبل قط بمثل هذه الفرصة الكبرى ـ وعليه، مثل هذا الواجب العميق ـ لبناء اتحاد أكثر مثالية يتناغم مع أحلام مؤسسي أمتنا.

إننا ندخل القرن الجديد بما يزيد على 20 مليون وظيفة جديدة، وأسرع نمو اقتصادي خلال فترة تتجاوز 30 عاماً، وأدنى معدل للبطالة خلال 30 عاماً، وأقل معدلات للفقر خلال 20 عاماً، وأدنى معدلات بطالة بين أبناء المجتمعات ذات الأصول الأفريقية والأميركية ـ اللاتينية تم تسجيلها، وأول فائض في الميزانية الخلفية خلال 42 عاماً. وفي الشهر المقبل، سوف تحقق أميركا أطول فترة نمو اقتصادي في تاريخها بأكمله.

لقد نجحنا في بناء اقتصاد جديد.

وتزامنت ثورتنا الاقتصادية مع انتعاش في الروح الأميركية، حيث تراجعت الجريمة بنسبة 20% لتصل إلى أدنى مستوياتها خلال الـ25 عاماً السابقة، وتشهد معدلات المواليد لآباء وأمهات مراهقين، تراجعاً للعام السابع على التوالي، وارتفعت معدلات تبني الأطفال بنسبة 30%، وانخفضت معدلات الإعانات العامة إلى أدنى مستوياتها منذ 30 عاماً.

إخواني الأميركيين، إن حالة اتحادنا هي الأقوى من نوعها على الإطلاق».

أما الآن، فقد خسر ما يزيد على 159 ألف شخص وظائفهم داخل الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) السابق. ويعد ذلك مجرد مؤشر بسيط يكشف عن قمة الجبل الجليدي فحسب. ومن الواضح أن الخبراء الاقتصاديين البارزين لم يُولوا اهتماماً لطبيعة الرأسمالية، وأبعادها الثقافية والسياسية. لذا يجابهون صعوبة في الاعتراف بالحقيقة، إنهم يتحدثون عن أحلامهم وأوهامهم فحسب، تماماً مثل الحلم الأميركي!

لماذا لم يذكروا حرب العراق كعنصر مهم وراء هذه الأزمة؟ إن أميركا لا تواجه هذه الأزمة وحدها، وإنما أيضاً العراقيون الذين يعانون من تداعيات تلك الأزمة. ونتذكر جميعاً أن جوزيف ستيجليتز ـ الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد ـ وليندا بيلمز، نشرا كتاباً على قدر بالغ من الأهمية عام 2008 تحت عنوان: «حرب التريليونات الثلاثة».

وخلال الفصل الأول، طرحا إجابة عن هذا التساؤل: «هل هي ثلاثة تريليونات بالفعل؟» ويشرح الكاتبان أن إدارة بوش كانت خاطئة في تقديرها لفوائد شن حرب في العراق، وكذلك تقييمها لتكاليف الحرب.

والآن نقف في مواجهة هذا التساؤل: لماذا لم يعر السياسيون اهتماماً لحربي العراق وأفغانستان. علاوة على ذلك، أحياناً يتحدث السياسيون عن حرب (جديدة) ضد إيران. ويشبه هذا الموقف الجديد إلى حد كبير لما دار في ذهن لينين عندما وضع كتابه «ما الذي يجب فعله».

وعلى الجميع أن ينتبه إلى عدم تحطيم الكوخ الذي يلوذون به! إننا جميعاً ركاب بالسفينة ذاتها، ومثلما قال توماس فريدمان: «العالم منبسط».