نعم.. لبنان ليس جورجيا

TT

رغم غرق الإدارة الأميركية في الإعصار المالي الذي تحول نوعًا من تسونامي الذعر والانهيارات وقد اجتاح دول العالم، حرصت واشنطن قبل أيام على إبداء اهتمام لافت وكثيف بالوضع في لبنان، انطلاقاً من مخاوف واسعة أثارتها الحشود العسكرية السورية على الحدود الشمالية ثم في منطقة البقاع.

وقد جاءت هذه الحشود بعد تصريحات سورية على أعلى المستويات حاولت تصوير شمال لبنان وكأنه مركز لقوى سلفية جهادية تنشط في أعمال ارهابية في لبنان. حيث توالت التفجيرات التي استهدفت الجيش اللبناني، وكادت أن تصور الانفجار الأخير الذي حصل في دمشق بأنه ربما يكون من أعمال هذه المجموعات الارهابية.

لم تكن الاتهامات السورية جديدة. فقد سبق أن وجّهت اتهامات مماثلة إلى قوى أصولية سنية في مدينة طرابلس ومنطقة عكار والمنية، عندما غرقت عاصمة الشمال اللبناني في اشتباكات دامية مع منطقة جبل محسن حيث الأكثرية علوية، لكن مبادرة النائب سعد الحريري بعد انتقاله إلى طرابلس أدت إلى قيام مصالحة أعادت الهدوء إلى المدينة كما هو معروف.

هذه المرة أثارت الاتهامات السورية انتباهًا بارزًا في واشنطن وباريس انطلاقًا من عوامل عدة. منها محاولة الإيحاء بأن الذين نفذوا التفجير في دمشق يمكن أن يكونوا قد تسللوا من الشمال كما أشرنا. ومنها القيام بحشد القوات على الحدود. ومنها انفجار الأزمة المالية التي استحوذت على اهتمام الدول والحكومات، بما يثير المخاوف من أن تصدق الاشاعات التي نشطت بعض قوى المعارضة في لبنان في ترويجها، أي أن القوات السورية ستدخل إلى المنطقة الشمالية لتطهيرها من الإرهابيين ثم تخرج منها.

ومن المؤكد أن الحشود على الحدود الشمالية أعادت إلى الأذهان كلام الرئيس بشار الأسد في موسكو عن حق روسيا في التدخل في جورجيا، الذي فهم منه يومها أنه تبرير يمكن أن ينسحب على الحال بين سورية ولبنان في وقت من الأوقات.

ولهذا كان مفهومًا تمامًا ما ذكرته المصادر الفرنسية قبل أيام من أن باريس سارعت إلى إبلاغ دمشق موقفًا واضحًا من الحشود العسكرية في حال عبرت الحدود وهو:

«ان لا جورجيا سورية في لبنان. وان على سورية مواصلة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين بدءًا بتبادل السفراء».

لكن التحرك الأميركي كان قد سبق الاتصالات الفرنسية. فقد وصل مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل إلى بيروت فجأة، وهو الذي كان قد زارها قبل شهرين، ثم تبعته مساعدة وزير الدفاع ماري بث لونغ حيث أجريا سلسلة واسعة من اللقاءات تركّزت في شكل أساسي على موضوع دعم الجيش اللبناني وتمثلت في تشكيل لجنة عسكرية لبنانية ـ أميركية مشتركة لتنظيم العلاقة وترتيب روزنامة المساعدات إلى المؤسسة العسكرية اللبنانية.

كان لافتًا تمامًا أنه في حين راحت البورصات تتهاوى وساد الذعر أميركا ومعظم دول العالم، ارتفعت حرارة الدعم الأميركي للبنان وبرزت مواقف التحذير الموجّه إلى دمشق، مقترنة مع نفي حازم لحصول أي تغيير في الموقف الأميركي من سورية، على خلفية محاولة السوريين الإيحاء بأن اللقاء بين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس وندها وليد المعلم في الأمم المتحدة، وكذلك لقاء المعلم مع ديفيد ولش، إنما هو «بداية حوار» يعيد فتح الأبواب بين دمشق وواشنطن، وهو ما يمكن تفسيره تخليًا أميركيًا مقلقًا عن لبنان، وسط الظروف الراهنة رغم الضغوط والممارسات السورية ضد لبنان وقواه الاستقلالية.

وحرصت الإدارة الأميركية على أن تقرن زيارة هيل ولونغ بإبداء قلقها من تحركات القوات السورية قرب الحدود اللبنانية الشمالية محذرة من أنه يجب عدم استخدام الاعتداء الذي هزّ دمشق أخيرًا «ذريعة» للتدخل في الشؤون اللبنانية.

وصرح الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية روبرت وود بأن الولايات المتحدة ودولا أخرى أوضحت لسورية أن أي تدخل من دمشق في لبنان غير مقبول. وقال للصحافيين في واشنطن إن «الهجمات الإرهابية التي حصلت في الآونة الأخيرة في طرابلس ودمشق ينبغي ألا تكون ذريعة كما تعلمون لمزيد من التدخل العسكري السوري ولا يمكن استغلالها للتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية».

وعلق وود على الحشود السورية قبالة الحدود الشمالية للبنان: «طبعا نحن قلقون من هذا النوع من النشاطات على طول الحدود، ومن أن تؤدي إلى مزيد من التدخل من سورية في الشؤون الداخلية للبنان». وقال إن «الحكومة السورية تدرك جيدا وجهة نظرنا في ما يتعلق بأي نوع من النشاط العسكري في منطقة الحدود».

وعلى خط موازٍ حرصت واشنطن على تسريب معلومات عبر مصادر بارزة في وزارة الخارجية، مفادها أن اللقاء بين رايس والمعلم كان «عابرًا جدًا» بينما كان اللقاء بين ولش والمعلم «باردًا جدًا» وليس حارًا كما تشيع الأوساط المقربة من دمشق. والترجمة السياسية لهذا الكلام ان إدارة بوش تنظر إلى «الخطوات البسيطة والصغيرة التي اتخذتها سورية أخيرًا» والمقصود هنا تسهيل انتخاب الرئيس ميشال سليمان وتشكيل الحكومة الجديدة، ولكن تفسير هذا النظر على أنه «إعادة تقويم» لسياسة بوش الهادفة إلى عزل سورية ينطوي على مبالغة، أو تصوير نيات ليست موجودة عند واشنطن التي ستواصل إبقاء العلاقات مع دمشق على مستواها الراهن إلى حين إحراز تقدم نوعي أفضل وأعمق في القضايا الخلافية مع سورية.

ما هو المقصود بالتقدم النوعي؟

هناك جوابان متلازمان على هذا.

أولاً ما ذكرته مصادر الخارجية في واشنطن أي: ترسيم للحدود بين البلدين وبعد فتح السفارتين، وبعد أن يقنع السوريون بأنهم سيتوقفون عن أعمال الاغتيال في لبنان.

وثانيًا ما أعلنه هيل في بيروت عندما طالب سورية بالمساهمة في «تطبيق القرار 1701 بكل بنوده والتوقف عن التدخل في الشؤون اللبنانية، ووقف تسرب المقاتلين الأجانب إلى العراق، والابتعاد عن ايران والسلوك الإيراني المقلق في المنطقة، والتوقف عن دعم الإرهاب وتصديره إلى المنطقة، وإيضاح التطورات المتعلقة بالمفاعل النووي السوري، والتعريف بالخروق الجدية لحقوق الإنسان في سورية واطلاق سراح المعتقلين السياسيين». هذه النقاط بمثابة معايير للنظر في تغيير دمشق لسلوكياتها، كما نفى أن تكون أميركا بصدد إعادة تقويم سياستها تجاه لبنان أو تجاه سورية، كما شدد على أن المحكمة الدولية مهمة وأساسية ليس فقط بسبب جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري المؤلمة ولكن أيضًا بسبب بقية الجرائم، ونحن نوفر أقوى الدعم على المستوى التقني أكان لجهة التمويل أو المساعدات التقنية الأخرى.

ومع صدور هذا الكلام في بيروت، حرصت دمشق على مخاطبة واشنطن وباريس معًا عبر الإعلان عن أن القيادة السورية أبلغت الحكومة الفرنسية ان استقدام الحشود العسكرية السورية ونشرها على طول الحدود الممتدة من عكار في شمال لبنان إلى البقاع الشمالي، يأتي في سياق خطة وضعتها لمكافحة كل أشكال التهريب بين البلدين ووقف عمليات التسلل خصوصًا ممّن أسمتهم «الجهاديين» إلى داخل سورية، وأن لا نيّة لدى دمشق للعودة عسكريًا إلى لبنان أو العبور من حدوده وأن عدد القوة المنتشرة أقل بكثير من عشرة آلاف جندي وهو الرقم الذي كان ذكر سابقًا عندما بدأ الانتشار العسكري السوري منذ أكثر من أسبوعين قبالة منطقة عكار.

وسط هذه الأجواء توافرت طرفتان:

أولاً: قول مصادر الخارجية الأميركية إن السوريين يتعمدون المبالغة في الحديث عن «الانفتاح» عليهم بهدف إغاظة اللبنانيين والضغط عليهم، وان اللبنانيين يبالغون في القلق من إمكان تخلي أميركا عنهم!

ثانيًا: ان أحد المهرّبين تمكن من نقل الصحافيين الأميركيين هولي شميلا وتايلور لاك العاملين في صحيفة «جوردن تايمز» من شمال لبنان إلى سورية في سيارته رغم كل الحشود لمنع التهريب والتسلل، حيث تمّ اعتقالهما بعدما أثيرت ضجّة كبيرة خوفًا من أن يكونا قد اختطفا وان يكون أسلوب احتجاز الرهائن في لبنان قد تجدد!