الحنين إلى القرون الوسطى

TT

تخوف مسيحيي لبنان مما يحصل لمسيحيي العراق من اضطهاد وتهجير يتجاوز حالة التعاطف مع أبناء عقيدتهم الى تساؤل أكبر حول مستقبل كل الأقليات الدينية، والعرقية أيضا، في الشرق الأوسط.

في العراق اليوم دور المسيحيين، وغدا يأتي دور الصابئة، وبعد غد اليزيدية.. وكل من لا يندرج في خانة الدولة الأصولية الشمولية التي تدفع باتجاهها رياح الشرذمة العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط.

هل كتب على أقليات الشرق الأوسط أن تنحصر همومها، في القرن الحادي والعشرين، في الدفاع عن هوياتها المذهبية وأن تصبح القضية القومية الكبرى، فلسطين، مجرد احتياطي لصراع الأصوليات الدائر حاليا على كل خطوط التماس في المنطقة، وإن بتسميات مختلفة؟

لافت ذلك «التطور التراجعي» للوضعين السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، فبعد أن كان العراق، منذ استقلاله عن بريطانيا، وطنا واحدا لكل أبنائه كائنا ما كانت الطائفة التي ينتمون اليها، أصبح في القرن الحادي والعشرين بلدا مشرذما، مهددا بالانقسام الى كانتونات مذهبية.

وبعد ان كان لبنان بعد استقلاله عن فرنسا ساحة صراع لثنائية حزبية لا طابع طائفيا أو مذهبيا لها بين من كانوا يعرفون «بالدستوريين» و«الكتلويين»، أصبحت الثنائية الحزبية القائمة فيه الآن، مبنية على اصطفاف مذهبي سني ـ شيعي.

وبعد أن كان الشارع العربي يتحرك، في القرن العشرين، من منطلق قومي لا لون طائفيا أو مذهبيا له، في مواجهة الخطر التوسعي الإسرائيلي، أصبحت حركة التحرير الفلسطينية نفسها، في القرن الحادي والعشرين، منقسمة على ذاتها بين مقاربة إسلامية وأخرى قومية لحركة التحرير.

وبعد ان كان الطابع الطاغي على التنافس العربي الايراني على النفوذ في الشرق الأوسط قومي الأبعاد – أي مدى عربي في مواجهة مدى فارسي ـ أصبح، في القرن الحادي والعشرين، مذهبي الطابع بالدرجة الأولى.

وحتى في إسرائيل، الدولة التي تصنف نفسها «علمانية»، رغم القاعدة الدينية لوجودها، أصبح القرار السياسي فيها رهين موقف المجموعات الأصولية اليهودية، ليس فقط تجاه القضايا الداخلية، بل أيضا حيال القضية الشرق أوسطية الأساس: التسوية مع الفلسطينيين والسلام مع العرب.

لا يخفى على أي متابع موضوعي لواقع الشرق الأوسط السياسي في القرن الحادي والعشرين أن الخلفيات الدفينة للتيارات الرئيسية الفاعلة على ساحته أصبحت خلفيات دينية، في أحسن الحالات، ومذهبية في أسوئها، مهما حاول السياسيون أو الإعلاميون إضفاء مصطلحات سياسية عليها... وكأن مجتمعات الشرق الأوسط تتراجع بلا وعي الى مناخات أوروبا في القرون الوسطى يوم كان الذبح على الهوية الطائفية دارجا بين الكاثوليك والبروتستانت.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المنعطف قد يكون: هل تجاوز الشرق الأوسط، في حنين دفين الى ذهنية القرون الوسطى، ما بشر به صامويل هانتنغتون من «صدام حضارات» الى شكل أكثر حدة من صراع الأصوليات الراديكالية الاسلامية؟

ما أحوج الشرق الأوسط اليوم الى الانتفاضة العقلانية التي شهدها الغرب قبل ثلاثة قرون وعرفت بعصر التنوير (Age of Enlightenment)، العصر الذي حدد الفيلسوف الألماني إمانويل كانت قاعدته «بخروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد».

عصر التنوير كان منطلق قيام أنظمة سياسية شرعية في أوروبا خارج اطر المعتقدات الدينية، الأمر الذي مهد الطريق لقيام الدولة الحضارية العلمانية ولإعطاء «ما لقيصر لقيصر وما لله لله».

ومع التسليم بأن المناخ الاجتماعي في دول الشرق الأوسط ما زال غير مهيأ لقيام الدولة العلمانية، فقد يكون المطلوب في هذه المرحلة التأسيس لنظام شرعي مدني يعزز التنوع ضمن الوحدة القومية ويحافظ على القناعات الدينية البعيدة عن النعرات الانفعالية ويحول التعددية المذهبية والعرقية الى قاعدة صلبة للديمقراطيات العربية.