نهاية أميركا.. هل الأمر كذلك؟

TT

في الدوائر الأكاديمية والسياسية التي تهتم بالاستراتيجية العالمية، يحمل كل موسم معه موضوعا خاصا به. وفي الوقت الحالي، فإن الموضوع هو: «العالم بعد أميركا».

وفي بداية الشهر الحالي، سمعنا هذا الموضوع يتكرر في مئات من الصور المختلفة خلال منتدى السياسات الدولي، وهو مهرجان سياسي جغرافي أقيم في منتجع «إيفيان» الذي يقع على جانب بحيرة فرنسية، وشارك فيه رؤساء ورؤساء وزراء من أكثر من عشرين دولة.

وكان الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف يمصمص شفتيه وهو يعلن نهاية السيطرة الأميركية.

وكان رئيس الوزراء الكيني راليا اودينغا أكثر طربا وهو يعزف على نفس القيثارة مؤكدا على الفكرة نفسها ومعربا عن أمله في أن يساعد قريبه النصف كيني، باراك أوباما كرئيس الولايات المتحدة، أميركا على تبنى «أجندة أكثر تواضعا». وكان وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبرت فيدرين أكثر تعاطفا، حيث قال إن القوة المفرطة الأميركية تتلاشى.

وخلال الصيف، حرصت طهران على توفير أسباب المتعة لمؤتمر دولي يتناول الفكرة نفسها، وإن كان بصورة أكثر عدائية. وقد أعلن الرئيس محمود أحمدي نجاد ظهور «عالم دون أميركا». وخلال الأسبوع الماضي، أخذ وزير الخارجية الإسباني ميغيل انخل موراتينوس ينشر الفكرة نفسها، وهي أن «العالم ذو القطب الواحد» ـ في إشارة إلى العالم الذي تقوده الولايات المتحدة ـ في طريقه إلى الانتهاء.

وفي الوقت نفسه تقريبا، قامت مجموعة من الشخصيات التي كانت بارزة، يتزعمها السكرتير العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان ورئيس الوزراء الفرنسي السابق ليونيل جوزبان بنوع من الهجوم على أميركا في طهران، في الوقت الذي التزموا فيه الصمت إزاء معاناة الشعب الإيراني. وقد كان عنان أكثر بلاغة وهو يقر أوهام مضيفيه الخمينيين بتحميل أميركا مسؤولية كل خطأ حدث وقد يحدث تحت الشمس. ويتساءل المرء لماذا لم يذكر أيا من تلك الأشياء خلال الأعوام الثمانية التي قضاها في الأمم المتحدة، حيث كان يستطيع أن يحشد باقي دول العالم ضد المخطئين الأميركيين.

وللطرق أكثر على القضية نفسها، قررت أكاديمية نوبل هذا العام تجاهل أميركا بأقصى قدر ممكن. وقد رفض متحدث باسم الأكاديمية اقتراحا بأن الأدب الأميركي قد يكون لديه مكانة مركزية، وتم تقديم هذا الوسام لأوروبا. وفي العام الحالي حصل عدد من الأميركيين على جوائز نوبل أقل من أي وقت مضى منذ الخمسينات من القرن الماضي. والاستثناء الوحيد كان القرار بمنح جائزة نوبل في الاقتصاد للصحافي بول كروغمان، الذي يعمل في صحيفة «نيويورك تايمز»، ويتحدث عن تراجع أميركا تحت حكم جورج بوش.

ومع ذلك، فإن فكرة «نهاية أميركا» ليست محصورة على المشتبه فيهم المألوفين، مثل أتباع المخابرات الروسية واليساريين الغربيين والموالين الخمينيين، ولكنها فكرة شائعة لدى الكثير من المثقفين الأميركيين. وفي الواقع، أشك في أنها ربما تكون قد ظهرت في بادئ الأمر داخل الولايات المتحدة، كجزء من المنحى المعادي للأمركة، قبل أن يتم تصديرها إلى العالم الخارجي.

وخلال زيارات إلى أماكن بيع الكتب في نيويورك خلال الأيام القليلة الماضية، رأينا عناوين ستة كتب تعلن نهاية «السلام الأميركي» والتحول الوشيك للولايات المتحدة إلى دولة ديمقراطية اجتماعية معتدلة على النمط الأوروبي. ويمتلئ التلفزيون الأميركي بالكثيرين الذين يطرحون توقعات حول كيف سيقوم الرئيس المفترض أوباما بـ«تصحيح أخطاء بوش» وتعديل السياسة الخارجية للولايات المتحدة لتصبح على غرار سياسات حلفاء لم يتم تحديدهم، والكيان الأكثر غموضا والذي يشار إليه بالمجتمع الدولي.

وعليه، فهل هذه حقا بداية النهاية لأميركا، التي وصفها أحمدي نجاد بأنها «دولة الغروب»؟

في البداية، ليس هناك إجماع على أن الأميركيين سوف ينتخبون أوباما، على الرغم من أن كل استطلاعات الرأي تشير إلى فوزه، ولكن حتى إذا انتخب أوباما، فليس هناك ما يجعلنا نعتقد في أن الولايات المتحدة لن تمتص الصدمة مثلما فعلت بعد رئاسة جيمي كارتر قبل نحو 30 عاما.

في ذلك الوقت، كان انتخاب كارتر مبعث الكثير من التوقعات عن «نهاية أميركا»، كما هو الحال مع فوز أوباما المحتمل، على خلفية تراجع مالي في وول ستريت حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية. وخلال رئاسة كارتر، وصلت معدلات التضخم إلى أقصى معدلاتها، ولم يكن هناك أي نمو، وحدث ما يعرف باسم الانهيار التضخمي. وخلال الأعوام الأربعة تلك، أصبحت الأسرة الأميركية المتوسطة أكثر فقرا بمقدار 15 في المائة، في الوقت الذي امتدت فيه طوابير البنزين إلى مسافات أطول وارتفعت الأسعار على نحو غير مسبوق. وكانت هناك إشارات إلى التراجع الأميركي الكبير عندما سقط نظام الشاه في إيران وقام الاتحاد السوفيتي بغزو واحتلال أفغانستان وتمدد النفوذ السوفيتي إلى أكثر من نحو 30 دولة إضافية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وفي خطاب مشين في عام 1979، تحدث فيدل كاسترو عن أن «إمبريالية اليانكي» في فراش الموت.

بيد أنه بعد ذلك بأربعة أعوام، عاد «الشيطان الأعظم» الذي كان يحتضر، بصحة أفضل أكثر من أي وقت مضى، وبات اللاعب الوحيد الجدير بالثقة على الساحة العالمية. وبعد عقد من الزمان، أصبحت الولايات المتحدة هي «الدولة العظمى» الوحيدة، التي تقود ظهور نظام عالمي جديد، ساعد ـ على الرغم من سقطاته الواضحة ـ على رفع أكثر من 100 دولة من الفقر المدقع، وفي الطريق إلى رفع عدد الدول التي توجد بها حكومات تعددية من نحو 30 دولة إلى أكثر من 120.

وسيلاحظ أي زائر للولايات المتحدة خلال هذه الأيام أن العملاق الكبير قد أصابه التعب، وهذا بسبب نزاعاته المريرة وليس الحروب في أفغانستان والعراق، وبسبب فهمه بصورة خاطئة وكونه غير محبوب في الكثير من الدول. ونادرا ما كانت ثقة الأميركيين في مؤسساتهم، بدءا من الرئاسة إلى الكونغرس، منخفضة مثلما هي في الوقت الحالي.

ويوجد تحت السطح مباشرة، النسمة الابتكارية التي كانت دائما ما تميز أميركا، فحتى أشد الناس تشاؤما سيرفض القول بأن الولايات المتحدة في الوقت الحالي تمر بما كانت تمر به الإمبراطورية الرومانية في أيام غروبها. فما زالت الولايات المتحدة ثالث أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان، وبفضل الموارد الطبيعية الضخمة والمستقبل الزراعي، فإن الولايات المتحدة تمثل قوة اقتصادية كبرى تحت أي ظروف. فعلى الرغم من أن لديها خمسة في المائة من سكان العالم، فهي تنتج خمس الإنتاج العالمي السنوي. ولكونها أكبر سوق في العالم، فهي الشريك التجاري لأكثر من 100 دولة، وعندما نأتي إلى الاكتشافات العلمية وبراءات الاختراع والعلامات التجارية، فلا توجد دولة، أو حتى مجموعة من الدولة، في مرتبة قريبة من المرتبة التي تحتلها الولايات المتحدة.

بعد أن قرأ نعيه في إحدى الصحف، أرسل مارك توين برقية إلى المحرر يقول فيها إن خبر وفاته قد تم تناوله بمبالغة كبيرة، وهو نفس الأمر الذي يمكن قوله تعليقا على كل هذا الكلام حول «نهاية أميركا» الذي يتم تناوله في الصالونات السياسية.