إسرائيل.. ومبادرة السلام العربية

TT

لستُ أدري لماذا أحبّت إسرائيل فجأةً مبادرةَ السلام العربية، التي تجاهلتها منذ طرْحها بمؤتمر القمة في بيروت عام 2002. فقبل أسبوعين تحرك شيمعون بيريز رئيس الدولة اليهودية بفلسطين المحتلّة، فقابل أبومازن، وقال كلاماً، يشبه الكلام الإيجابي الذي سبق إليه إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقيل. كان أولمرت قد قال إنّ إسرائيل محتاجةٌ للسلام، ولذا فإنه لكي يصبح ممكناً الوصول للسلام، قد يحتاجُ الأمر للتخلّي عن معظم أو كلّ المستوطنات، وعن القسم العربي من القدس، وهكذا فعندما التقى بيريز بأبومازن أقبل على التصريح بالأمر نفسِه، وأَثنى هو وأبومازن على كلام أولمرت. وعاد بيريز إلى حزبه (حزب العمل)، فحصل على موافقة رئيس الحزب(إيهود باراك)، وزير الحرب في الحكومة الإسرائيلية الحالية، على الأمرين: الانسحاب الكامل من الضفة الغربية والانسحاب من القدس الشرقية. واستدعى بيريز تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الحالية، والمكلَّفة بتشكيل الحكومة التي قد تخلُفُ حكومة أولمرت، وحصل منها على موافقةٍ على الشيء نفسه، لكنها أصرَّت على ذكر إلغاء حقّ العودة؛ بينما كان بيريز وأولمرت يريان ترك أمورٍ مثل حق العودة، والحدود، والمياه والأمن للتفاوض التفصيلي لاحقاً.

بيد أنّ هذا الذي ذكرناه ليس أهمَّ ما حدثَ مؤخَّراً؛ بل إنّ بيريز الذي بدأ بالتشاور مع الزعماء الإسرائيليين الآخَرين بشأن المفاوضات مع الفلسطينيين، انتهى فجأةً أو بناءً على نيةٍ سابقةٍ للإعلان عن الموافقة على المبادرة العربية للسلام، وهو يذهب هذه الأيام لمصر للتداول بشأن «المبادرة» التي صارت من وجهة نظره قابلةً للبحث لأنّ إسرائيل رأت فيها أخيراً مصلحةً لها!

تاريخ المبادرة العربية معروف، فقد اقترحها الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما كان ما يزال ولياً للعهد، وحضر مؤتمر القمة العربية في بيروت نائباً عن الملك فهد رحمه الله. وقد حظيت تلك المبادرة بموافقةٍ اجماعيةٍ من الملوك والرؤساء العرب، ودأب العربُ في سائر مؤتمرات القمة بعد ذلك على تأكيد طرحها والالتزام بها. لكنها رُفضت بدايةً من جانب شارون، وإلى حدٍ ما من الرئيس بوش نفسه. في حين رحّب بها الأوروبيون بشكلٍ عامٍ، واعتذروا من العرب لعدم السير فيها، لأنّ الإسرائيليين ليسوا موافقين عليها، ولأنهم كانوا مشغولين بتركيب اللجنة الرُباعية للتفاوض مع الفلسطينيين على خريطة الطريق العتيدة. تقول المبادرة العربية في الجوهر ما قالته القرارات الدولية: العودة إلى حدود عام 1967 من جانب إسرائيل، في مقابل الاعتراف من جانب الدول العربية، التي لم تعقد معها معاهدة سلامٍ حتى الآن؛ وهذا يعني: الأرض في مقابل السلام، أي إنفاذ القرارات الدولية. أما الإسرائيليون فقد رفضوا وقتها هذه المبادرة لأنّه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (ايلول) عام 2001 شنّت الولايات المتحدة الحربَ على الإرهاب الإسلامي، ونجحت إسرائيل في إدخال الكفاح الوطني الفلسطيني ضمن «الإرهاب». وكان أمل شارون أنه من خلال العنف المفرط، وسط تسليم الولايات المتحدة والأوروبيين بضرب الإرهاب الفلسطيني، قد يتمكن من إنهاء المشكلة الفلسطينية، بمعنى الإبقاء على المستوطنات، والقدس موحَّدة، وإرغام الفلسطينيين والعرب المحاصَرين على توقيع معاهدة سلام على ذوق إسرائيل. وما كان الأميركيون (المحافظون الجدد وقتها) ضدَّ هذا الأمر، وردّدوا ما رجاه شارون؛ وبخاصةٍ أنهم كانوا يريدون الانتقام من العرب بعامةٍ، ومن السعودية بخاصة، باعتبارها الدولةَ التي ينتسبُ إليها أكثر الذين أغاروا على الولايات المتحدة!

لكن على مشارف عام 2005 كان التصدُّعُ قد ظهر على الجبهتين: الجبهة العراقية لفشل العسكر الأميركي في إخضاع العراقيين الثائرين. والجبهة الفلسطينية للهجمات الانتحارية وغير الانتحارية التي قادتها كتائب الأقصى، وكتائب عز الدين القسّام. واعتقد شارون أنه يستطيعُ الانسحاب من غزة منفرداً دونما تفاوض، فلا تبقى عليه غير جهة واحدة هي الضفة الغربية، ويستطيع عندها «المُطاولة» بالتظاهر بالاستجابة للجنة الرُباعية، والتظاهر بمجاملة أبومازن بعد استشهاد الرئيس عرفات وما كانت حسابات شارون صحيحة، لأنّ إطلاق الصواريخ من غزة استمر بعد الانسحاب الإسرائيلي، والضفة الغربية لم تهدأ، وأُضيفت لذلك الحرب التي شنّها حزب الله على إسرائيل في يوليو( تموز) 2006. وفي عامي 2007 و2008 ازداد موقف إسرائيل سوءًا أيضاً: انفجر الصراعُ بينها وبين إيران على النووي، وازداد تسلُّح حزب الله وحماس وقدراتهما وبخاصةٍ بعد استيلاء حماس على غزة رسمياً. وكان الاختراق الوحيد الذي حققته إسرائيل في عام 2008 هو بدء التفاوض مع سورية بواسطةٍ تركية، لكنّ نيات سورية غير واضحة، فهل تستطيع توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل دونما موافقةٍ من جانب حليفتها إيران (لأنّ ذلك يعني قطع طريق الإمدادات عن حزب الله، والتوقف عن دعم التنظيمات الفلسطينية المسلَّحة)، ودونما مظلةٍ عربيةٍ عمادُها السعودية ومصر؟!

المحيط الجغرافي والجيوسياسي لإسرائيل ملتهبٌ إذن، والتنظيمات الإسلامية المسلَّحـة من حولها تزدادُ قوة، والأميركيون يتجهون للانكفاء، وحتى الشراكة مع أبومازن والانسحاب من الضفة والقدس لا تضمن الهدوء على حدود الكيان الصهيوني، ولذا فقد يكون «الرؤيوي» بيريز، ومن أجل الضغط أكثر على حماس، وعلى إيران، واحتضان سورية أو تمكينها؛ قد رأى اللجوءَ للعرب الكبار لضمان جوٍ ودودٍ لكيانه في الشهور القليلة القادمة، والتي تحفلُ بالمخاطر في ظل الغياب النسبي للسطوة الأميركية، واضطراب بيئات الشرق الأوسط. وبيريز في الحقيقة هو وحده المؤهَّل بين الساسة الإسرائيليين للقيام بهذا الدور، إذ إنّ الساسة الآخرين منهمكون في المنافسة على رئاسة الوزارة، وعلى الانتخابات، ويزايد بعضُهم على بعضٍ في التطرف، لكسْب المتدينين وجمهور المستوطنين، أما بيريز الثمانيني فإنّ مستقبله وراءه، وهو عاشقٌ للتاريخ، ويريد أن يكونَ له دورٌ تاريخيٌّ، يشبهُ ذاك الذي انتزعه منه إسحاق رابين من قبل.

لكنْ من جهةٍ ثانيةٍ قد يكونُ وراء الأكَمة ما وراءها. فالمبادرة العربية جوهرُها الأرضُ في مقابل السلام. والتعاهُدُ مع أبومازن ومع سورية، في ظلّ رضا أو سكوت العرب الكبار، هل يضمنُ بالفعل السلامَ لإسرائيل؟ إذ مَنْ يضمنُ رضا حماس، ورضا حزب الله (وإيران)؟ فهل يريد بيريز التمهيد لشنِّ حربٍ على حزب الله (وعلى إيران)؟ على أساس أنه بعد ضرب الحزب، تأمن إسرائيل، وتقبل بالانسحاب من الجولان، وبقيام الدولة الفلسطينية، بعد أن يكون حزب الله وحماس قد ضعُفا، وما عادا قادرَين على إزعاج المحيط الإسرائيلي؟!

لقد كانت لدى إسرائيل فرصة عام 2004، بعد وفـاة عرفات، وعندما كان أبومازن في ذروة قوته. لكنّ شارون وقتَها كان ما يزال يأمُلُ أن يستطيع هزيمة المقاومة الفلسطينية، والسطوة في محيط الكيان. أمّا اليوم فالكُلُّ مأزوم: إسرائيل لازدياد المخاطر على أمنها بعد نموذج حرب تموز. وسورية بسبب محاولاتها لإعادة التموضُع، وفكّ العزلة العربية والأميركية عنها دونما إغضابٍ لإيران. وحزب الله بسبب الاشتباه بسورية، ولعلمه أنّ إسرائيل لن تُسلِّم له بالاستئثار بالمبادرة العسكرية. وحماس لوقوعها النهائي بين إسرائيل ومصر، ولذا ففي الوقت الذي يُوافقُ فيه السياسيون الإسرائيليون على المبادرة العربية للسلام؛ فإنّ المخاطر من حول إسرائيل وفي المنطقة تتصاعد، وربما جاء هذا القبول بالمبادرة متأخّراً بحيث إنه لم يَعُد مُجدياً. وعلى أي حال، ولمعرفة حقيقة الخطوة الإسرائيلية، وهل هي باتجاه السلام أو الحرب، لا يحتاجُ المرءُ للانتظار أكثر من أُسبوعين أو ثلاثة!