الحاكم الراوية

TT

أشعل أحد النواب الجزائريين من أبناء شهداء المقاومة، جدلا ساخنا في الجزائر بتشكيكه في عدد شهداء حرب التحرير الذين تقدرهم الرواية الرسمية بالمليون والنصف، الى حد أن الجزائر تدعى بحسب التسمية المحببة «بلاد المليون شهيد».

ومع أن الرجل ذكر علنا ما يلمح إليه الكثير من المؤرخين الجزائريين، إلا انه وصف بالنفاتي الخائن والعميل، على غرار نفاة المحرقة اليهودية في أوروبا، الذين يعاقبهم القانون لتشكيكهم في جرائم ضد الإنسانية. لا يهم تاريخيا ان كان العدد اقل، فالرقم في ذاته أصبح «أسطورة مؤسسة» على لغة الانتربولوجيين، تشكل مرتكز الهوية الوطنية لبلد هش التركة المركزية مثل كثير من البلدان العربية الأخرى. فالجزائر الحديثة هي بنت الثورة، وشرعية الدولة مستمدة من ملحمة التحرير، كما ان تحكم المؤسسة العسكرية في مقاليد الأمر منذ انقلاب الرئيس الأسبق هواري بومدين عام 1964 يقوم على استثمار هذه القصة الخارقة، ما دام «الجيش سبق الدولة وهو الذي أسسها» كما يقال عادة. والرئيس الحالي بوتفليقة نفسه من المستفيدين من سردية «المليون شهيد» بصفته من أبطال المقاومة والتحرير، مما يؤهله لتغيير الدستور وحكم البلاد في دورة ثالثة، استنادا على شرعية الزخم الرمزي الكثيف للمقاومة.

حكم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بلاده طويلا زعيما منتخبا مدى الحياة، ليس بصفته حاكما مسيرا للشأن العمومي، وإنما بصفته البطل الأسطوري الخارق الذي حرر الدولة وأعاد للشعب كبرياءه وكرامته، فكانت كل معارضة له عقوقا للوالد الحنون. وكان بورقيبة قاصا مجيدا، يتقن سرد رواية المقاومة والتحرير التي تتمحور حول شخصه، ولهذا الغرض كان يخاطب يوميا شعبه في برنامجه التلفزيوني «من توجيهات الرئيس» الذي يحرص فيه على تثبيت روايته عن مسار التحرير، في مقابل الروايات المغايرة التي يقدمها خصومه.

كما كان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، حريصا على الرجوع بانتظام لمرجعية «ثورة الملك والشعب» (نفي الملك محمد الخامس وعائلته الى مدغشقر عام 1953) التي كانت الحدث المجدد في المغرب، مستندا إليها بالسرد في المناسبات الكبرى التي يخاطب فيها شعبه.

في الساحة المشرقية، شكلت «ثورة 1952» الأسطورة المؤسسة للنظام السياسي المعاصر في مصر، فكانت دعامة زعامة عبد الناصر في العالم العربي، ولا تزال الزخم التعبوي للسياسة الإقليمية المصرية، ومرتكز شرعية الدولة القائمة. حول عبد الناصر قلب النظام الملكي الى سردية ساحرة هي رواية الثورة التي حكاها في كتابه «فلسفة الثورة» وفي خطاباته الطويلة. وكان الرجل قاصا مكينا بلغته التعبوية الآسرة وصوره البلاغية والتمثيلية المؤثرة. ولئن كان خليفته السادات أراد في البدء ان يقاسمه الأسطورة ذاتها، إلا انه انتهى الى صياغة أسطورته الخاصة كبطل لحرب أكتوبر 1973 «التي  كسرت أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يهزم، وأعادت لمصر كرامتها» حسب العبارات الشهيرة، وقد كتب السادات أسطورته الجديدة في كتابه المثير «البحث عن الذات».

ويذكر زوار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، انه كان راوية متميزا، يبدأ الحديث الى محاوريه بسرد ملحمة  صلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس، ليخلص منها الى مأساة تقسيم الأمة وتفكيك أوصالها، منتهيا الى دور بلاده في انتشالها من الضياع والانقسام، الى حد ان وزير خارجية أمريكا الأسبق كيسنجر، قال انه أصبح يحفظ عن ظهر قلب رواية الأسد الطويلة عن محنة العرب وأمجادهم.

ليس الحكام العرب نشازا ولا استثناء، فللزعماء السياسيين الكبار في العالم رواياتهم. وكان محرر فرنسا الجنرال ديغول قاصا ساحرا كتب في مجلدات ضخمة، رواية المقاومة ضد الاحتلال الألماني وسردها بلغته الأنيقة وصوته الساحر في الإذاعة الفرنسية، كما كان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ حكواتيا لامعا سحر الصينيين بملحمة الثورة التي بدأت بالمشوار الانفرادي الطويل في الأرياف، وعرف الرئيس الكوبي المستقيل فيدل كسترو برواياته الممتعة التي ألهب بها خيال الكوبيين وعوضهم بها عن نعيم العيش والحرية. وقد أنهى الرئيس الأمريكي السابق كلينتون مذكراته الصادرة منذ خمسة أعوام بالقول ان كتابه قد لا يكون مفيدا من حيث المعلومات، الا انه يرجو ان يعتبره القارئ «قصة جميلة».

ليست الأسطورة وهما أو خرافة على ما يظن عادة. فلئن كانت تأخذ من الخرافة بعدها الخارق، إلا انها تؤسس  حقائق في عالم الناس، الذين يحتاجون إليها في بناء واقعهم وتكريس شرعية نظمهم. والحاكم الناجح هو دوما راوية لامع.