إلقاء اللوم على إزالة القيود التجارية لن يجدي

TT

كان من شأن حالة الفوضى المالية التي تعم البلاد دفع حملة المرشح الديمقراطي للرئاسة، باراك أوباما، للمقدمة، وهو أمر يبدو منطقياً إلى حد كبير، ذلك أن أوباما يُولي اهتماماً لقضايا الاقتصاد أكثر من خصمه الجمهوري جون ماكين، علاوة على تمتعه بمجموعة أفضل من المستشارين. ومع ذلك، يبقى هناك جانباً مثيراً للقلق في ما يتعلق بالتقدم الذي يحرزه الجانب الديمقراطي، ذلك أن الزعم بأن الأزمة المالية تعكس إجراءات الحد من التنظيمات والقيود على الأنشطة التجارية التي أقرها بوش ويؤيدها ماكين، هو محض هراء. وفي الواقع، تكمن الجذور الحقيقية للأزمة الراهنة في النقائص التي اتسمت بها الاستجابة تجاه الصين، فبدءا من التسعينات أبقى تدفق السلع الرخيصة القادمة من الصين على معدلات التضخم العالمية عند مستويات منخفضة، مما سمح للمصارف المركزية بتطبيق سياسات مالية غير محكمة نسبياً. بيد أن الجانب السلبي لفائض الصادرات الصينية تمثل في أن الصين أصبح لديها فائض في رأس المال أيضاً. وتدفقت المدخرات الصينية على أسواق الأصول بمختلف أنحاء العالم، مما أدى إلى ارتفاع أسعار جميع السلع في شتى الدول. وعليه، يتضح أن السبب الأول وراء الأزمة الحالية يتركز في مصرف الاحتياطي الفيدرالي، وليس إجراءات الحد من القيود والتنظيمات على النشاط التجاري. ولو كانت المشكلة أن قدراً مفرطاً من الأموال جرى إقراضها واقتراضها، فإن ذلك يرجع إلى أن المدخرات الصينية جعلت رأس المال رخيصاً، ولم يكن مصرف الاحتياطي الفيدرالي قوياً بما يكفي في رفعه لمعدلات الفائدة بهدف مواجهة ذلك. علاوة على ذلك، فإن سجل المصرف في ما يتعلق بخفض معدلات الفائدة من أجل التخلص من الفقاعات السابقة أغرى الكثيرين، حيث أقدمت المؤسسات المالية على بناء تراكمات هائلة من الديون، الأمر الذي يرجع بصورة جزئية إلى توقعهم جني أرباح عندما تتحسن الأوضاع، وأن يهرع مصرف الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذهم عند وقوعهم في مأزق.

وبطبيعة الحال، لا يمكن لأحد إنكار أن الممولين هم من خلقوا هذه التراكمات من الديون، وبالتأكيد يستحقون بعض اللوم عن الأزمة التي نجابهها اليوم. لكن التساؤل القائم الآن هل جاءت الحسابات الخاطئة من جانب الممولين نتيجة تقليص التنظيمات والقيود على النشاط التجاري؟ الإجابة لا. وإذا لم يقنعك كل ما سبق بأن مسألة تقليص التنظيمات والقيود على النشاط التجاري تعد كبش الفداء الخطأ في الأزمة الراهنة، عليك إمعان النظر في ما يلي: لقد تم تعزيز الإقبال على الرهونات العقارية السيئة من جانب كل من «فاني ماي» و«فريدي ماك»، وهما شركتان ماليتان تخضعان لمستوى بالغ من التنظيم. من جهته، يقدر تشارلز كالوميريس، البروفسير بجامعة كولومبيا، أن «فاني ماي» و«فريدي ماك» قامتا بشراء ما يزيد على ثلث الرهون العقارية السيئة البالغ إجمالي قيمتها 3 تريليونات دولار والتي تم خلقها خلال الفقاعة، وأقدمت الشركتان على ذلك نظراً لأن الإشراف الحكومي الشديد عليهما أجبرهما على دفع الأموال باتجاه المشترين الهامشيين للمنازل. ورغم وجود خلاف حول مدى صحة الرقم الذي ذكره كالوميريس، هناك إجماع حول أن الشركتين تسببتا في سكب المزيد من الوقود على النيران المشتعلة، مما فاقم الخسائر بمقدار مئات المليارات من الدولارات. وبذلك يتضح أن إلقاء اللوم على عاتق إجراءات تقليص القيود والتنظيمات المفروضة على النشاط التجاري باعتبارها المتسببة في الفوضى المالية الراهنة ينطوي على قدر بالغ من التضليل. كما ينطوي هذا الاتهام على خطورة كبيرة، نظراً لأن أحد التحديات الكبرى التي ستواجه الرئيس القادم ستتمثل في حماية الأسواق من رد الفعل السلبي القوي الذي سيتبع لا محالة هذه الأزمة. حتى قبل وقوع الأزمة المالية، انهارت جولة المفاوضات التجارية في الدوحة وأثار الجمود الذي أصاب رواتب الأميركيين من أبناء الطبقة الوسطى تساؤلات مشروعة حول الجهة التي يخدمها نظام السوق بالفعل، ودفع الارتفاع الشديد الذي شهدته أسعار الغذاء الكثير من الاقتصادات الناشئة نحو التخلي عن التطلع نحو الأسواق الزراعية العالمية كمصدر للأمن الغذائي. وعلى رأس جميع تلك التحديات تأتي حقيقة أن الفوضى المالية الحالية ستسفر بالتأكيد عن تعميق الشكوك حيال الأسواق. وستزداد الأوضاع سوءا حال الإصرار على إلقاء اللوم على عاتق عمليات تقليص التنظيمات والقيود على النشاط التجاري. وسيتعين على الرئيس القادم اتخاذ عدد من القرارات الصعبة، وفي قطاعات معينة سيكون من الضروري إصلاح الأسواق من خلال، على سبيل المثال، إضفاء قدر أكبر من الشفافية على التعاملات بين المصارف. وفي قطاعات أخرى، سيتعين على الحكومة إصلاح ذاتها عن طريق الامتناع عن توفير دعم لعمليات الإقراض المتهورة المرتبطة بالرهن العقاري. لكن الرئيس الذي سيتم تكليفه مهمة إعادة التنظيم فحسب سيكون أشبه بملاكم يلعب بقفاز واحد. ومن خلال المضي قدماً مع مشاعر الريبة التي يبديها حزبه تجاه السوق، ربما ينتهي الحال بباراك أوباما بالفوز في الانتخابات وتعريض فترة رئاسته للخطر.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»