.. ومن أسباب الأزمة: الاستهتار بـ (النصح) والأفكار الناقدة الخلاقة

TT

ملف الأزمة المالية العالمية ينبغي أن يظل مفتوحا حتى تستقر البشرية على قاعدة فكرية: أكثر صوابا وثمرا وأمانا ونفعا للكافة.

وثمة اتجاهات فكرية كثيرة ظهرت بعيْد الأزمة المالية التي زلزلت اقتصاد العالم وماله زلزالا شديدا، وهي اتجاهات يدل معظمها على (الجدب الفكري) المخيف الذي يضرب ـ بقسوة ـ عالمنا وعصرنا، على الرغم من كثرة الحكي، وكثافة البث، ولمعان أضواء المدن، و(جيوش الخبراء) في كل مجال (من الخبراء في الجماعات الاسلامية الى الخبراء في الأسواق والسعادة الزوجية والمستقبلات)!!.. وأبرز هذه الاتجاهات ثلاثة: اتجاه التبرير الساذج لخطايا الرأسمالية، وهذا التبرير يصدر عن (دراويش) الرأسمالية الذين يتوهمون أن العالم لن يعيش بدونها، بل لن يعيش بدون (وحشيتها) التي هي ـ في تصورهم ـ نتيجة حتمية، أو (ضريبة) لا بد من دفعها مقابل حرية الملكية والكسب والثراء والطموح المالي والاقتصادي، وهذه الضريبة تشبه ـ في نظر هؤلاء ـ (الإباحية الأخلاقية) التي هي ضرورة لازمة للتقدم والتمدن والتحضر في نظرهم أيضا!.. الاتجاه الثاني هو الاتجاه المطلي بطلاء إسلامي وخلاصته (نعي الرأسمالية) باسم الإسلام، وكأن انهيار الأنظمة القائمة يعني ـ تلقائيا أو ميكانيكيا ـ: تفوق المسلمين، وانتصار حضارتهم، على حين أن منهج الإسلام عكس ذلك: منهج الإسلام هو تقديم (البديل الأرقى) قبل زوال القديم، ونقاهة الواقع منه. مثال ذلك: أن التوحيد الحق والهدي هما بديل الضلال والشرك والوثنية:« لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة».. الاتجاه الثالث يمثله المولعون بـ (التعجل بنعي البشرية)، وكأنها حمل ثقيل يجثم على صدورهم. هؤلاء وجدوا في الأزمة المالية العالمية الراهنة ما يحسبونه (توثيقا) لنظريتهم المتمثلة في قرب خراب الكون. ألم يزعموا من قبل: أن العالم سيفنى مع بداية الألفية الثالثة للميلاد؟. نعم. فعلوا ذلك، ولكن استمرار وجود البشرية وعمرانها: كذّب مزاعمهم، ودمغهم بأنهم محض دجالين.

ومما يلحق بهذه الاتجاهات ـ المجدبة فكريا ـ: الغرق في تفسيرات خاطئة للحدث والمبدأ والقيمة.. وهذه أزمة جديدة.. كيف؟.. إن التفسير الخاطئ للتاريخ والمجتمع: أنتج النظرية الماركسية التي انبنى عليها واقع ضخم مثقل بآثام لا حصر لها تجاه الإنسان: الفرد والمجتمع.. والتفسير الخاطئ للدين نشأ عنه استغلال بشع للدين، وتفلت منه باسم المرانة، أو غلو فيه باسم المحافظة على شرائعه وثوابته.. والتفسير الخاطئ للحرب العالمية الأولى ترتبت عليه قرارات سياسية وجغرافية كانت خميرة الحرب العالمية الثانية.. ومما يندرج في هذا السياق: التعليل الديني ـ فحسب ـ لكل حدث مثل حدث الأزمة المالية. ومما لا ريب فيه: ان لله تعالى يدا في الأحداث، بيد ان الإيمان بذلك لا يلغي الأسباب والسنن الأخرى التي رتب الله نفسه ـ جل ثناؤه ـ على مباشرتها: استقامة الناس أو انحرافهم، سعادتهم أو شقوتهم.. يقابل ذلك في الاتجاه المضاد: تفسير يستبعد ـ بإطلاق ـ المشيئة الإلهية من الأحداث كافة.. وإذا كان من يفعل ذلك مؤمنا، فإن موقفه هذا يتناقض مع أصل إيمانه، إذ كيف يوفق بين موقفه هذا وبين قول الله عز وجل ـ مثلا ـ:«ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون».. إنه موقف يتناغم مع موقف من لا يؤمن بالله ولا بمشيئته وقدرته وقيوميته، وهو موقف يقتضي من صاحبه الاستيثاق من مفهوم الألوهية الحق في عقله وضميره.. وللحرية الحقيقية مكانتها ـ ومكانها ـ ها هنا: بمعنى هل يضيق الفضاء الكوني والعقل البشري بتفسير يقول ـ مثلا ـ: إن الربا أحد أسباب الكارثة المالية؟.. ما هذا (التزمت) البالغ التنطع الذي يتناقض مع حرية التفكير والتعبير؟.. ومن المفارقات المذهلة: ان الغربيين المسيحيين الذين يناهضون التفسير الماركسي للتاريخ والحياة والقيم، يتبنون التفسير نفسه في استبعاد مشيئة الله من حركة التاريخ والكون والمجتمع.. وهذا انتصار للماركسية حتى بعد أن سقط نموذجها التطبيقي الأكبر وهو الاتحاد السوفيتي.. وغريب عجيب ان يتحد المؤمن مع الملحد في التفكير والتفسير!!.

ما المنهج الموضوعي الصحيح المطلوب؟.. المنهج المطلوب هو: البحث العلمي الجاد والنزيه والمتكامل ـ لا الأحادي ـ عن اسباب الأزمة كافة: أسبابها المباشرة وغير المباشرة.. أسبابها المالية والاقتصادية والسياسية والحضارية والأخلاقية والإدارية والفلسفية.. المهم ألا يُترك سبب ما وهو ملفوف في الظلام أو منسي أو مستثنى من البحث والتنقيب.

وفي مقالات سابقة استعرضنا منظومة من الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة البشرية الكبرى: الأمريكية والعالمية.

ونستأنف في هذا المقال: سياق (التنقيب الموضوعي) عن مزيد من الأسباب فنقول:

إن من أسباب الكوارث المدمرة التي حاقت بالبشرية ـ في تاريخها وحاضرها ـ: سببا مركبا: شقه الأول (انعدام النصح) بحكم الجهل والكهانة وادعاء الكمال، وبفعل الخوف والنفاق.. وشقه الثاني: الإعراض عن النصح حين يبذل. وعلة الإعراض هي: الاستهانة بالنصح، والحط من قيمته، والتشكيك في بواعثه: جهلا وهوى، أو عنادا واستكبارا، أو حمقا جموحا.

باستقصاء أسباب الأزمة أو الأزمات التي تضرب أمريكا، وجدنا: أن الإعراض عن النصح، والاستخفاف به، وعدم الاستفادة الجادة منه، هو واحد من أعتى أسباب الأزمة، ومن أعمقها أثرا فيما جرى ويجري لهذا البلد.

إن النصائح والمشورات والأفكار والآراء السديدة التي قدمت للحكومات الأمريكية المتعاقبة هي من الضخامة والتنوع بحيث تملأ موسوعات مكتبية تنتظم ألوف الكتب والمراجع.

ولنخصص الآن ما بقي من المقال لنماذج من هذه النصائح والمشورات والأفكار الناقدة والخلاقة (والمحبة) لأمريكا:

1 ـ «ان الولايات المتحدة تقف على قمة القوة في العالم، وهي مرحلة حساسة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية، لأن الإحساس بالمسؤولية الجسيمة نحو المستقبل يجب أن يلازم التفوق والقوة».. ونستون تشرشل.

2 ـ «ان أمريكا وصلت إلى الصدارة العالمية قبل الأوان، وقبل أن تكون مؤهلة بالتاريخ والتجربة والنضج، ولذا فمن المتوقع أن تكون فترة المجد الأمريكي خمسين سنة من البداية الى النهاية».. المؤرخ البريطاني الشهير: أرنولد توينبي.. وقد حدد توينبي بداية المجد الأمريكي الأعظم: بستينات القرن العشرين الماضي.

3 ـ «من دروس التاريخ وعبره ان الحضارة ـ أي حضارة ـ لا يمكن أن تؤخذ باعتبارها أمرا مسلما به بلا نهاية، كما ان دوامها أمر لا يستطاع أبدا توكيده. فهناك دائما عصر أسود ينتظرك وراء الباب، إن أنت أسأت اللعب بالأوراق التي بين يديك، أو إذا اقترفت من الأخطاء عددا كافيا».. بول جونسون.

4 ـ «مع أن الولايات المتحدة تتربع على المنزلة السامية في المجالين: الاقتصادي والعسكري، فما هي بمنجاة من الاختبارين الشاقين اللذين يتحديان (امتداد عمر) كل قوة كبرى تتبوأ (الرقم 1) في الشؤون العالمية. وما إذا كان بوسعها أن تصون قواعدها التكنولوجية والاقتصادية لقوتها من (التآكل النسبي) بوجه أنماط الإنتاج العالمي دائمة التغيير.. إن ما تحتاجه البلاد هو (صدمة قومية) تشبه بيرل هاربور ولكنها سلمية، صدمة تجعل الأمريكيين واعين بالمشكلة التي تحيط بهم فترفع من طاقاتهم واستعدادهم للعمل».. بول كندي في كتابيه (الصعود والهبوط) و(الاستعداد).

5 ـ «يعلمنا التاريخ ان أي قوة عظمى لا يمكن ان تستمر في مكانتها لفترة طويلة ما لم تكن لديها رسالة توجهها إلى العالم بأسره. ويجب أن تستند هذه الرسالة إلى النمط الأخلاقي داخل تلك الدولة بحيث تضرب المثل لبقية الدول في السلوك والعادات.. والولايات المتحدة لا تستطيع أن تكون شرطي العالم، ولا مصرف العالم، ولا معلم العالم الأخلاقي. فالأول يحتاج إلى الشرعية، والثاني يقوم على وفرة السيولة، والثالث ينتج عن المثل الأخلاقي الذي لا تشوبه شائبة».. زبغنيو بريجنسكي.

بيد ان الإدارات الأمريكية المتعاقبة أصمت أذنيها دون هذا النصح السديد الأمين. وكانت عاقبة هذا الصمم الإرادي: هذه الأزمات التي هدت عافية أمريكا.

وقد يقال: إن أمريكا مجتمع مفتوح ديمقراطي يسمح بالنقد وطرح الآراء والمشورات والنصائح، فكيف تتضاءل قيمة الرأي والنصح فيه؟.. والجواب: ان الآراء والنصائح تنتهي عند الرئيس فهو الذي يتخذ القرار، فإذا كان رئيسا غير ذكي وغير موفق: استهان بالنصح وأعرض عنه ـ ولا سيما النصح الذي لا يوافق هواه ـ .. وثمة مانع آخر من الاستفادة من النصح وهو الدائرة الاستشارية الأقرب إلى الرئيس. فهذه الدائرة من المقربين تستخف بالنصح وتحجبه بسبب الحرص على مصالحها، والخوف من انكشاف غشها وتدليسها، وكذلك الخوف من الطعن في (خبرتها) التي لم تنتبه الى ما تضمنه النصح من أفكار منقذة مبدعة خلاقة.. مثال ذلك: أن ناصحين أمريكيين كبارا وعقلاء نصحوا الرئيس الأمريكي الحالي بـ (عدم شن حرب على العراق).. ومن هؤلاء مستشارا الأمن القومي الأمريكي السابقان: برنت سكوكروفت، وزبغنيو بريجنسكي.. ومنهم وزير الدفاع الأسبق: ميلفين ليرد، والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، ولكن الدائرة المقربة من الرئيس حجبت هذا النصح أو سخرت منه، وأغرته بالحرب حتى خاضها فكانت هذه الحرب أحد أسباب الأزمة المالية الراهنة الخانقة.