احتفالية الحملة الفرنسية في مصر

TT

الاحتفالية المشتركة لستة اشهر بين مصر وفرنسا بعنوان «بونابرت ومصر» لترويج اثر الحملة الفرنسية (1798 ـ 1801) التي كان لها الفضل الاكبر في إرساء قواعد تأسيس محمد علي باشا (1769 ـ 1849) للدولة المصرية الحديثة ونموها كأكبر قوة اقتصادية سياسية ثقافية وحضارية، لم تشهد المنطقة مثلها منذ عهد الملكة كليوباترا (69 ـ 30 قبل الميلاد).

وتدور معركة في الساحة الثقافية المصرية حول الاحتفالية، وصلت الى صفحات «الشرق الأوسط»، جريدة النخبة من قراء العربية.

غالبية مثقفي مصر يدركون مدى استفادتهم مباشرة او غير مباشرة من تراكمات قرنين من العلاقات الحضارية الفنية الثقافية بين فرنسا ومصر. يرون فوائد الاحتفالية في تفتيح العقول الشابة التي اغلقها نظام «وزارة التربية والتعليم» في التلقين وليس في التفكير، وإتاحة الفرصة لفناني ومثقفي مصر الذين تحرمهم قلة الإمكانيات من مخالطة الفنانين العالميين والمشاركة في أعمالهم.

ويعاكسهم أقلية من الإخوان والأخوات المحسوبين والمحسوبات على مثقفي مصر، لكنها عالية الصوت نصبت نفسها حارسة على الثقافة الدينية، ترهب الناس فكريا وماديا وجسديا باسم الدين او الحفاظ على الأخلاق، تهاجم الاحتفالية باعتبار الحملة الفرنسية استعمارا لمصر استهدف تصفية الإسلام.. لم يقدموا دليلا واحدا على ذلك، اذ لا تعتبر الحملة (1769 ـ 1821) «استعمارا» حسب تعريفات علوم السياسة الدولية.

اكتشفت ما بين سطور ما نشر في ساحة المعركة أنها ستار لمحاولة قوى الظلام منع تزكية وزير الثقافة والفنون المصري، الفنان المثقف المستنير التقدمي أدبيا وأخلاقيا ومعنويا، فاروق حسني، لرئاسة اليونسكو ـ مؤسسة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة والفنون، وطبعا يدعمه المثقفون المستنيرون المؤمنون بحرية الفنان وحرية التعبير.

مجموعة الإخوان والأخوات تحاول تشويه سمعة فاروق حسني الذي يعتبره اي مثقف مصري أو عالمي بمثابة «الفاترينة» المناسبة لعرض أجمل وأفضل وأثمن بضاعة مصرية وهي الفنون والثقافة والإبداع الخلاق المتراكم عبر 7000 عام.

الظلام يفنيه ضوء شمعة واحدة، فيتلاشى كمصاص الدماء الكونت «دراكيولا» بشعاع شمس ذهبي ساعة الشروق، فما بالك برعب الأقلية العالية الصوت المظلمة العقول التي نصبت نفسها حراسا وحماة للأخلاق من كل ما يمثله فاروق حسني ووراءه جيش من حملة مشاعل التنوير من مثقفي مصر الذين يفوق عددهم وحدهم التعداد السكاني لبعض الدول بأكملها؟

أحقية فاروق حسني في المنصب كممثل للقارة الأفريقية (وعليها الدور في الرئاسة هذه المرة) تتلخص في نجاحه في رعاية آثار اقدم حضارة، ومؤسسات ثقافية وفنية وادبية بالغة الضخامة والتعقيد هي الأكبر في افريقيا والشرق الأوسط. كما يتمتع بشجاعة أدبية وأخلاقية ومعنوية كديموقراطي يؤمن بحق الفرد، ذكرا أم أنثى، في اختيار المأكل والملبس والمشرب والعقيدة وحرية التعبير ورفض تدخل من لا يفقهون في الفن، إما تحت شعارات سياسية او دينية او أخلاقية، في الإبداعات الفنية والأدبية، وموقفه الاكثر شجاعة في الدفاع عن حرية المرأة في اختيار ملبسها ومكياجها وطريقة حياتها، ما عرضه لهجوم الإخوان والأخوات.

انتقى البعض، خارج السياق، وقائع من عبد الرحمن الجبرتي (1753 ـ 1825) «عجائب الآثار في التراجم والاخبار»، بحوادث متفرقة تمارسها اي قوة عسكرية دخلت بلدا ضد خارجين على القانون بعقوبات، كانت سائدة في البلد نفسه ولم يخترعها الفرنسيون (تعتبر وحشية بأخلاقياتنا المعاصرة).

شطب أحد الأقلام المناهضة للاحتفالية مساهمة نابليون والحملة الفرنسية كالعامل الأكبر في بناء الدولة المصرية الحديثة المستنيرة الديموقراطية الليبرالية (1805 ـ 1953).

فهل يعتقدون ان الطفرة الهائلة التي شهدها القرن 19 حتى منتصف القرن 20 في التعليم والإنشاءات والاقتصاد وزراعة القطن وبناء قناة السويس والاوبرا، وإنشاء رابع اكبر صناعة سينما في العالم، سقطت كغيث من السماء على ارض مصر او عثر عليها أثناء حفر آبار المياه، ولم تتم بجهود محمد علي واولاده استنادا إلى قاعدة رسختها الحملة الفرنسية ؟

وهناك خطأ علمي في الاعتماد على مصدر واحد كالجبرتي لاستقاء المعلومات.

العثمانيون والقوى الأوروبية بقيادة بريطانيا نافسوا فرنسا، وفي جامعاتها ومكتباتها وثائق الفترة من رسائل سفرائها وجواسيسها في مصر وقتها.

وهناك مدونات مشايخ الازهر عن لقاءاتهم ومباحثاتهم بقادة الحملة، ودفاتر التسجيل اليومي لكل وحدة عسكرية فرنسية، وكتاب وصف مصر الذي قيست فيه كل حارة وجبل وفرع للنيل بدقة شديدة، ومذكرات الضباط الفرنسيين، ورسائل الجنود لذويهم وأكثرها محفوظ في جامعات فرنسا ومركز توثيقها القومي. الى جانب مذكرات الضباط الفرنسيين الذين تزوجوا بمصريات، وبقوا في مصر حتى مغادرة الفرنسيين لها، وهناك مذكرات نابليون نفسه الذي أراد «فرْنَسة مصر، فعاد ممصَّرا» بعد انبهاره بحضارة مصر.

الحملة الفرنسية لم تكن «استعمارا» كحال عدة إمبراطوريات قبلها وبعدها.

نابليون، جاء بالعلماء والأطباء والمهندسين والجغرافيين ولولا اكتشاف حجر رشيد لما عرف العالم بعظمة الحضارة المصرية.

لم ينشئ نابليون «مستوطنات»، او يفرض الجباية او الفدية او الجزية او ضريبة الرؤوس على المصريين.. ولم يجبرهم على تغيير لغتهم أو دياناتهم او عاداتهم ؟ نابليون زرع بذرة الديموقراطية في المثقف المصري (وقتها الشيخ الأزهري).

كان بونابرت ومستشاروه الفرنسيون يجتمعون يوميا (11 صباحا) بمشايخ الأزهر لمناقشة اوضاع البلد، وتحسين الاحوال، وخاصة تنقية مياه الشرب بعد تسمم وإصابة البعض بالدوسنتاريا من مياه الآبار.

طلب نابليون انتخاب رئيس لمشايخ الأزهر ومساعدين لتأسيس لجنة عمل مشتركة دائمة مع الفرنسيين حتى تكون المناقشات منظمة بجدول أعمال وقرارات تتابع اللجنة المشتركة تنفيذها يوميا. (محاضر الجلسات موجودة في المركز القومي الفرنسي للوثائق) فأشار علماء الأزهر إلى كبيرهم «اخترنا هذا».

فرفض نابليون شارحا لهم الأسلوب الديموقراطي لاختيار اللجان في البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) مصرا على سرية الاقتراع بان يكتب كل شيخ اسم مرشحه في ورقة مطوية يضعها في صندوق اقتراع.

قلد محمد علي اسلوب نابليون بفتح السودان والحبشة واوغندا ليؤمن تدفق النيل وكون مجلس الاعيان الذي اصبح منتخبا فيما بعد بالاقتراع السري وتدرج ليصبح البرلمان المصري كله منتخبا في عهد سعيد باشا في منتصف القرن 19 .

ولعل أهم اثر لعلاقة علماء الحملة الفرنسية بمشايخ الأزهر هو إرسال محمد علي اولى البعثات التعليمية لفرنسا، برئاسة الشيخ الأزهري المستنير رفاعة الطهطاوي. فوعي فاروق حسني بالتراث الثقافي الهائل الذي تركته حملة نابليون، يؤهله أيضا لرئاسة اليونسكو لقدرته الغريزية على فهم الروابط والتلاحم بين ثقافات العالم غربا وشرقا، وأيضا التصدي بحزم لقوى التخلف والشمولية والظلام، وهذه مهمة اليونسكو الشاقة التي تعرقلها قوى الظلام التي تمثلت في هدم الطالبان لأحد أهم معالم التاريخ وهو تمثال بوذا.

فالاقلام التي تهاجم فاروق حسني وتنكر دور الحملة الفرنسية في بناء مصر الحديثة، شديدة القرب، فكريا وايديولوجيا، مع القوى التي حطمت قلب اليونسكو بهدم احد اهم كنوز العالم الحضارية في أفغانستان.