استراتيجية الخداع

TT

ما يزال النظام المالي في مواجهة خطر محدق، رغم موافقة الكونغرس على خطة إنقاذ مالي غير مسبوقة بقيمة 700 مليار دولار، حيث تشهد معدلات البطالة ارتفاعاً مستمراً، في الوقت الذي تتباطأ فيه عجلة النمو الاقتصادي. والتساؤل الأكبر الذي يفرض نفسه الآن ليس ما إذا كنا نواجه فترة ركود اقتصادي، وإنما إلى متى سيستمر هذا الركود وما مدى خطورته. في تلك الأثناء، لا تزال القوات الأميركية تخوض القتال على جبهتين ـ العراق وأفغانستان ـ حيث يؤكد التاريخ أن الاحتلال الأجنبي دائماً ما انتهى بشكل مأساوي. أما الإرهابيون الذين هاجموا بلادنا في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فتم السماح لهم بإعادة تجميع صفوفهم داخل حدود باكستان المسلحة نووياً وهم منهمكون الآن في التخطيط لشن هجمات جديدة. وعلى ما يبدو لم يسبق أن شهدت فترة انتخابات رئاسية مثل هذا الكم من القضايا الكبرى والملحة.

لكن جون ماكين، المرشح الجمهوري للرئاسة، يريدنا أن نُولي اهتمامنا لمعارف غريمه الديمقراطي، باراك أوباما. ومن الواضح أنه وسارة بالين، المرشحة لمنصب نائب الرئيس، سيبذلان قصارى جهدهما لدفعنا للحديث عن أي شيء فيما عدا القضايا الكبرى التي تواجه وطننا، وذلك لأن غالبية الأميركيين يعتقدون أن الحلول التي يطرحها أوباما أفضل من تلك التي يقدمها ماكين.

والتساؤل الآن، هل سنساعد، نحن العاملين في الحقل الإعلامي، في هذه الحيلة التي يسعى لتنفيذها القائمون على حملة ماكين الانتخابية؟

عادة ما نميل نحن معشر الصحافيين للاعتقاد بأننا أذكى من أن يتم استغلالنا من قبل جانب ما في إطار حملة سياسية. بصورة ما، يمكن القول بأننا نتبع فكر آدم سميث، حيث نؤمن بوجود سوق إعلامية حرة تماماً حيث ينتهي الحال، بصورة أشبه بالمعجزة، بمجموعة هائلة من القرارات الفردية من قبل المحررين ورؤساء التحرير والمصورين وكتاب الأعمدة الصحافية والمعلقين وبارونات الإعلام ـ وهي قرارات تتعلق بالأنباء التي ينبغي تغطيتها وكيف تتم تغطيتها ـ بتضخيم الحقيقة. وكثيراً ما نزعم بأننا لسنا آيديولوجيين، لكن في حقيقة الأمر تلك هي آيديولوجيتنا التي نعتنقها.

في الوقت ذاته، ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا نعمل من أجل الصالح العام، ودائماً ما نعمد إلى تذكير الجميع بأن من حقنا أداء مهام وظيفتنا على الوجه الذي نراه متوافقاً مع التعديل الأول. وكثيراً ما يروق لنا الاستشهاد بما قاله توماس جيفرسون حول أنه يفضل وجود صحف بدون حكومة عن وجود حكومة بدون صحف.

إن ميولنا نحو اتباع نهج آدم سميث تدفعنا لتغطية ما يقوله المرشحون، بيد أنه من خلال نزعاتنا الجيفرسونية ندرك جيداً أنه ليس من الصالح العام إهدار الوقت المتبقي من عمر الحملة الانتخابية في الحديث عن شخصيات هامشية قُدر لها في وقت من الأوقات دخول حياة أوباما أو ماكين أو بالين أو بايدن لفترة قصيرة، بدلاً من مناقشة قضايا الاقتصاد أو الحرب ضد الإرهاب أو الرعاية الصحية أو أي قضية كبرى من شأنها تحديد ملامح فترة الرئاسة القادمة.

كما ندرك جميعاً كصحافيين أنه مهما أبدينا من تشكك عند تناولنا لمزاعم زائفة، فإن مجرد الكتابة عنها ينشر مثل هذه الادعاءات على نطاق أوسع. وعليه، فإنه عندما تشكك بالين في حب أوباما لوطنه لأنه كان على معرفة بشخص اقترف أمراً غير وطني عندما كان أوباما في الثامنة من عمره، نجد أنفسنا مدفوعين بنزعاتنا المؤيدة لفكر السوق الحرة لتغطية كل كلمة سخيفة تفوهت بها بالين. ومع أننا أيضاً نعمل على التأكيد أن تلك المزاعم تأتي في إطار محاولات طعن بذيئة ولا تتجاوز كونها مجرد تكتيك انتخابي، فإن ذلك لا يشكل أدنى أهمية بالنسبة للقائمين على حملة ماكين الانتخابية، وإنما الذي يهمهم هو أننا نكتب ونتحدث بشأن هذه الأمور العرضية ـ وليس القضايا التي تؤكد استطلاعات الرأي أن الناخبين يهتمون بشأنها.

إذا كنا نحن من نعمل بالحقل الإعلامي نؤمن حقاً بما نتشدق به حول خدمة الصالح العام، علينا أن نتجنب التحول إلى أدوات لتشتيت انتباه الرأي العام. بالطبع، علينا أن نغطي تصريحات المرشحين الانتخابيين من خلال وضع تصريحاتهم في إطارها والإشارة إلى اللحظات التي يبالغ أو يكذب فيها. إلا أنه يتعين علينا أيضاً التفكير بجدية بشأن حجم الأضواء التي نسلطها على المحاولات والمحاولات المضادة لتشويه السمعة.

وعلينا أن نطالب بكل قوة بأن يتناول المرشحون القضايا الاقتصادية والحروب التي نخوضها ومكانة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي. وإذا لم يجلس هؤلاء المرشحون لتلقي أسئلتنا، علينا أن نصرخ بها في وجوههم. وإذا حاولوا إعاقتنا عن ذلك، علينا أن ندمرهم. وإذا حاولوا المراوغة في إجاباتهم، يمكننا طرح أسئلة متابعة حتى آخر رمق لدينا.

لقد أوضح القائمون على حملة ماكين رغبتهم في تغيير موضوع الحديث. أما نحن فباستطاعتنا، وينبغي علينا، أن نعيد موضوع الحديث لما كان عليه.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»