قبل الحوار.. حماس وفتح

TT

رغم الأزمة المالية.. التي تواصل اجتياحها للعالم كله.. إلا أن الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني ما يزال يحظى بقدر كبير من الاهتمام.. ومردّ ذلك على الأرجح، اهمية الموضوع ..لأكثر من طرف اقليمي ودولي.

فالموضوع هو محاولة جدية لإنهاء وضع فلسطيني غير مسبوق، فمنذ بداية الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني وحتى أيامنا هذه.. وإلى أجل غير مسمى، يحدث أن تنشأ سلطتان متصارعتان في وطن واحد، سلطة في الضفة الغربية، مكبله باحتلال عسكري واستيطاني، يمس مجمع أعصاب الحياة الفلسطينية بأدق تفاصيلها. وسلطة أخرى محشورة في زنزانة مكتظة بالناس والأزمات.. وهذه السلطة أخذتها العزة بالإثم وورطت نفسها بشعارات والتزامات مستحيلة، وقدمت نفسها للعالم على أنها أول نظام حكم يؤسسه الإخوان المسلمون في هذا الزمن.

وإذا ما نظر لصناع القرار على كلا الجانبين، فإننا نرى سقفا منخفضا يتحرك الفريقان المتصارعان تحته، ومهما بلغت قوة ووجاهة الادعاء، إلا أن الجميع محكوم باعتبارات عملية تجعل من الشعارات والأهداف المعلنه بعيدة كل البعد عن أن تتحقق.

وبعد قرابة سنة ونصف السنة من استيلاء حماس على الحكم في غزة، وارتفاع أصوات فيها من المناورة أكثر مما فيها من الحقيقة، تدعو الى مد تجربة غزة الي الضفة.

يدخل الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني ممرا حاسما، فإما أن يُفضي إلى مصالحة واتفاق وتفاهم على شراكة كاملة، وإما أن يذهب بالجميع إلى فشل جديد، يدفع ثمنه الفلسطينيون جميعا.. من حياتهم وطموحاتهم وحقوقهم المشروعة.

وهنا لا بد .. من أن يقوّم كل طرف من أطراف الصراع واقعه، ومساحة حركته، وفرص تحقيق الأهداف التي ألزم نفسه بتحقيقها.

ومن موقعي، كمواطن لا يدعي الحياد في الموقف والالتزام.. أجد لزاما علي أن أكون موضوعيا في عرض المعطيات واستنتاج الخُلاصات.

ذلك يتطلب تحديد اللاعبين وقراءة واقعهم وقدراتهم، بعيدا عن ادعاءاتهم واستخلاصاتهم الخادعة.

حماس: منذ فوزها غير المحسوب في انتخابات المجلس التشريعي، وحركة حماس تنزلق من خطأ إلى آخر.. كان الخطأ الأول، تفسيرها للفوز على أنه ثقة مطلقه منحها الشعب الفلسطيني لها، ومن واقع هذه الثقة ظنت انها ملكت الحق في إلغاء كل ما سبق، ورسم خط المستقبل بيدها دون التفكير في شراكة حقيقية، وإنما مراهنة لكسب الوقت وتعزيز القبضه على السلطة.

تقدير حماس هذا، وضعها في موقع غريب، يغطيه منطق ديمقراطي عصري، ويجوفه من الداخل انعدام القدرة على التعاطي مع الحقائق الموضوعية التي تتضافر جميعا لحصارها وإسقاط تجربتها.

كان منطق حماس في الدفاع عن نجاحها، يرتكز الى ما تراه بديهية لا تناقش، وهي حتمية احترام الجميع للنتائج التي أفرزها صندوق الاقتراع بما في ذلك امريكا وإسرائيل.. مع حتمية أن تتحول فتح التي سقطت في الانتخابات الى متعاون مع حماس في أمر تثبيت سلطتها، وتجسيد خيارها السياسي الذي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، بلا ملامح.

ولعل أبرز الدلائل على ارتباك حماس هو فقدانها البوصلة السحرية التي توفر لها النجاح في سلطة أسستها اتفاقات أوسلو، مع استمرار المقاومة المسلحه التي ألغتها أوسلو.. وحين كانت حماس تضطر للاختيار بين سلطة متنازع عليها، ومقاومة مسجلة في شعاراتها، كانت تختار السلطة وتضحي بالمقاومة، وتفاهم التهدئة الأخير هو القرينة الدامغة على ذلك..

والخطأ الثاني.. هو عدم الإقرار بفشل تجربة الاستئثار بالحكومة الأولى ..أي الحكومة الحمساوية الصرفة، والذهاب الي مكة لإبرام اتفاق تسعى من خلاله الى كسب الوقت وليس الى تأكيد شراكه فعلية مع الآخرين..

لقد قبلت حماس بحكومة الوحدة الوطنية، إلا أنها وبعد أقل من شهر علي اتفاق مكة، بدأت تصرخ مطالبة بتعديل اتفاق مكة.. مبررة ذلك بعدم تحقق الوعد الذي أمّلت نفسها به، ودخلت حكومة الوحدة من أجله، وهو إنهاء الحصار، وفتح الأبواب على مصاريعها لحماس، كي تفتح خطا من غزة إلى طهران، وخطا آخر من غزة الى اوروبا ثم البيت الأبيض.. إن أمكن!

إن هذا النوع من «الشطارة الساذجة» وضع حماس في غرفة ذات صدى قوى، تسمع فيها صوتها مضخما وكأنه الحقيقة المطلقة، وليس أدل علي ذلك من تشخيص أعلنه السيد خالد مشعل، للوضع الفلسطيني والعربي، قال فيه: إن الأمة في أفضل حالاتها، فما عليها إلا أن تحشد الجيوش وتتوجه الي القتال وتنهي كل شيء!

وما يدلل مرة أخرى على أن حماس أخطأت في تقدير الواقع والتوقعات .. إنها وحين عرف رئيسها خالد مشعل بأن الرئيس محمود عباس أحضر دعوة رسمية لرئيس الوزراء آنذاك اسماعيل هنية من سويسرا بوصفه رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية، استقبل الخبر ببرود.. مع أنه موضوعيا خطوة نوعية نحو كسر الحصار عن حماس ووصفة فعالة لدخولها الى المعادلة الاقليمية والدولية متأبطة ذراع فتح وليس بمفردها..

خطيئة انقلاب غزة: فوجئ العالم بسرعة انهيار فتح والسلطة في غزة، أمام هجمات مُركزة ومتتالية قامت بها ميليشيات حماس، واستغرب العالم مدى قسوة حماس في التنكيل بفتح تحت عنوان «الاقتصاص من الماضي» حيث أُلقي بعض الكوادر من أسطح البنايات الشاهقة ونُفذ حكم الإعدام بكوادر استسلمت في مواقعها أو في بيوتها.. وفوجئ المسلمون الذين تحمسوا لحماس كحركة جهادية، بانتحال أي مسلح من اعضائها صفة المُفوض من الله بقتل الخونة والمارقين! والجميع يذكر مقولة «أتركه لي لأدخل به الجنة».

إن ادّعاء الوطنية وخلعها عن الآخرين، أمر ينسجم مع التراث المتراكم للصراعات الداخلية في عالمنا العربي، وفق ثقافة الانقلابات والبيانات..

أما ادعاء تمثيل الله على الأرض، واحتكار الدين، وارتكاب أفعال خطرة باسمه، فهذا أمر لا جدال على أنه الكفر بعينه.. وهو كذلك الخروج الجريء عن أخلاق الاسلام وتراثه الحضاري المليء بوقائع الحوار والتسامح والتأكد من التُهم قبل إصدار الحكم فيها وتنفيذه بدقائق..

لقد أرسلت حماس رسائلها السلطوية منذ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب.. وكان بديهيا أن يخسر الإخوان المسلمون في العالم كله كثيرا من صورتهم النمطية، فإذا كان حكم الإخوان المسلمين بذات الصورة التي ظهر عليها حُكم غزة، فعلى كل أخ مسلم أن يودع حلم الحكم في أي مكان آخر.. ذلك أن غزة هي الفترينه الحية التي تمتلئ بنماذج سلطوية لا يحبها الناس ولا يستطيعون التعايش معها في بلدانهم ومجتمعاتهم.

ان انقلاب غزة ـ يرقى الى مرتبة خطيئة الخطايا، وبفضله أفقدت حماس نفسها حق الحديث عن الشرعية الفلسطينية. فالانقلاب الدموي، مزق كل النظم والتقاليد والشرائع وهذا ما يتعين على حماس إدراكه.. والابتعاد عن استخدام كلمة الشرعية في الحوار القادم.

.. ولقد أخطأت حماس مرة أخرى وليست أخيرة، حين طرقت أبوابا كانت تُحرّم علي غيرها مجرد التفكير فيها، فمن أجل السلطة عرضت هدنة تزيد على خمس عشرة سنة ولإسرائيل أن تفعل فيها ما تشاء في جو من الهدوء والرضا..

ومن أجل السلطة.. قدمت عرضا بالموافقة على دولة ذات حدود مؤقتة، ظنا منها أن هذه الموافقة ستمنحها أفضلية عند صانع القرار الدولي، يستبدل فيها الرهان على فتح برهان فورى على حماس.

ومن أجل السلطة.. أبرمت حماس اتفاق تهدئة، قدّمت فيه كل شيء لقاء لا شيء..

وأقدمت من خلاله على اعتقال وحتى قتل من يطلق الصواريخ في زمن التهدئة..

ومن أجل السلطة.. تحول جيمي كارتر، صانع كامب ديفيد، إلى رجل عظيم لمجرد أنه صافح قادة حماس، وقال لهم لا مستقبل لكم إلا بالاعتراف بإسرائيل.. كل ذلك قدمته حماس، لقاء ثمن واحد وهو النجاة الشخصية لقادتها، وها هي بعد كل ما قدمت، لا تملك غير الشكوى وتنظيم حركة الانفاق واعتبار القمع الشرس نجاحا سلطويا عجزت سلطة عرفات وعباس عن القيام به، والغريب أن قلب المنطق أضحى هو المنطق المُفضل عند حماس، والأغرب أن في رؤوس قادتها وهما أقوى تأثيرا من الحقيقة، يرى أن الجميع في مأزق إلا حماس فهي في وضع تستطيع من خلاله الإملاء على الجميع.. إذا جاءت حماس الى الحوار الشامل، حاملة هذا المنطق كاستراتيجية حوارية مع فتح وسائر الفصائل، فلا جدال على أنها ستكون وهي على موائد الحوار أشبه بمن لا يزال يغني في غرفة الصدى، يسمع نفسه ويطرب، فيما الآخرون الذين يعيشون في الغرف الأخرى من البيت الصغير يقتلهم الملل لفرط النشاز في الصوت الذي يغني.. لو قرأ بعض أعضاء حماس هذه المقالة، فلربما يعتبرونها نوعا من الهجوم الإعلامي أو التشهير أو التصعيد أو تسميم أجواء الوئام والوحدة المنشودة.

ربما يكون الأمر على هذه الصورة فيه بعض مبرر أو مسوغ أو حقيقة، إلا أن ما هو أهم هو ما أقصده من كل ما تقدم، وهو نصح حماس أن تأتي الى الحوار، حاملة حقائقها وليس أوهامها.. فالحقائق تقول إن تجربة سلطة منفردة في حكومة هنية الأولى.. قد فشلت.. وإن تجربة سلطة منقوصة في حكومة الوحدة الوطنية مع توجه لكسب الوقت وليس للشراكة.. قد فشلت كذلك.

أما الانقلاب فقد جسد موضوعيا قمة الفشل في المنطق والهدف. وما نحن ذاهبون اليه، وكي لا يفشل فلا مناص من إشهار الحقيقة والاعتراف بها والبناء عليها مهما كان ذلك قاسيا.

* السفير الفلسطيني

في القاهرة