لغة الحوار المنشودة

TT

يمثل التأمل والتفكير، ممارسة ذهنية يقوم بها الإنسان، للتعرف على ما يحيط به في بيئته وفهم ذاته، وسبب وجوده وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وكما أن الانسان لديه القدرة على التفكير، فهو أيضا لديه القدرة على النطق بما توصل اليه من نتيجة لذلك التأمل الفكري والتعبير عنه، ولوجود الاختلاف بين البشر في مستوى الذكاء والادراك واختلاف البيئات التي يعيشون فيها وغيرها، لذلك لا غرابة أن يكون الاختلاف الفكري بين البشر موجوداً ليسهم في إيجاد تفاعل ينتج عنه التقاء للأفكار ببعضها أو تصادم بينها وهذا التفاعل هو ما يمكن أن نطلق عليه الحوار، إذا الحوار هو منهج فكري عقلاني يسعى لإيجاد حلول للمشكلات بين البشر أنفسهم أو مع البيئة المحيطة بهم، ومنها تلك التي تطرأ على مجتمع بعينه نتيجة للاختلافات الفكرية بين بعض أفراده. والحوار ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة إلى الوصول للحق في مسألة موضوع الحوار نفسه.

وحين تتغلب الأهواء والعاطفة عند الانسان على العقل، تدفعه تلك العاطفة نحو تجاوز دائرة العدل والحق المراد الوصول إليه من خلال هذا الحوار، فيبذل قصارى جهده لِيظهر أمام الناس بمظهر الكمال، مما يشجعه لأن يثبت سلامة تصرفه، وصحة منهجه، فيلجأ إلى التبرير، فإذا وجد مخالفة أو معارضة لرأيه أثناء الحوار، لجأ إلى الجدال وفيه يقاتل بضراوة رغبة في الانتصار لنفسه، لا حرصا على الوصول إلى الحق، كما يفترض أن يكون عليه الحوار العقلاني.

فيتحول الحوار إلى جدل ولجة، وكما قيل لو أن النجاح بالمجادلة بقوة الصوت والصراخ، لكان الجهلاء أولى بالنجاح فيه، وفي المثل «العربة الفارغة أكثر جلبة وضجيجاً من العربة الملأى» فحوار يجري بهذه الطريقة لن تكون نهايته إلا مزيداً من التعصب على حساب الوصول للحقيقة، فيتحول إلى قطيعة فكرية، تزيد من حُمى التصنيفات السائدة في المجتمع، فيسهم من غير قصد في تفريخ التطرف الفكري بشقيه، لينعكس سلباً على مسيرة الحوار العقلاني المطلوب.

فالأزمة إذا هي أزمة لغة. واللغة ليست فقط كما ينظر إليها في التفكير الدارج، بأنها أداة من أدوات الاتصال عن طريق التبادل اللفظي، ولكن اللغة التي نقصدها هنا، هي القدرة على فهم أنفسنا، وفهم المخالفين لنا، بل وفهم العالم أجمع من حولنا، فالإبداع في اللغة العربية أو التحدث بلغة أجنبية، لغير الناطقين بها، لا تعني القدرة على فهم الطرف المقابل المراد محاورته، بل لا بد من التعرف على طرائق التفكير لديه، لتعزيز لغة الحوار والتواصل، للوصول معه إلى قواسم مشتركة واحترام متبادل للرأي، وذلك لتحقيق الهدف السامي المنشود من الحوار، وهو الإثراء المعرفي التراكمي، وتلاقح الأفكار، للإسهام في ايجاد حلول لمشاكل المجتمع من خلال حوار فكري متزن بلا إفراط ولا تفريط، يرقى بالحوار بعيدا ًعن التشفي وتصفية الحسابات وجرح المشاعر بالسخرية وغيرها، سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو الفكري. إننا مطالبون بأن نعيد الروح إلى لغة الحوار العقلاني، ووضعه في مساره الصحيح، وبضوابط تبعده عن الاستخفاف بالثوابت الدينية، الاجتماعية، وبعيدا ًعن العسف المخل للنصوص، لتخطئة الآخر أو التلاعب بالألفاظ ولجة الخطاب، لتحقيق مكاسب هي أقرب للذاتية منها للمصلحة العامة، فالتعصب الفكري، وضيق الأفق، والإثارة السلبية للمواضيع تحت ذريعة حرية الرأي، والتي هي أقرب الى فوضى الرأي منه إلى حريته، على حساب الدين والوطن، إنما هو ترسيخ للانحراف عن المفهوم الصحيح للحوار العقلاني وضوابطه، سواء كان ذلك من المنظور الشرعي، والأخلاقي، أو من المنظور الغربي لمفهوم حرية الرأي كما يريد له البعض أن يكون.

[email protected]