الاتفاقية الأمنية بين القطبين الإقليمي والدولي

TT

في مقالتي السابقة تحدثت عن تأثير المعادلة العراقية على الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة ، ولأن الاسبوع الأخير كان حافلا بالتفاعل السياسي والاعلامي مع الاتفاقية، ولأن تأثير العامل الاقليمي أخذ بالبروز أكثر في مسار معالجتها لا سيما مع الموقف الايراني الاكثر صراحة برفض الاتفاقية، فلا بد من مواصلة النقاش حول الموضوع وهذه المرة من منظور الوضع الاقليمي، وبشكل خاص العلاقة الملتبسة والحرب شبه الباردة بين ايران والولايات المتحدة. البديهية السائدة في بغداد والمنطقة هي أن الجانب الايراني يميل الى التخلص من الوجود الامريكي في العراق، بل والى حرمان الامريكيين من فرصة المخرج المشرف الذي بات عنوانا للموقف الجمهوري الذي عبر عنه ماكين في حملته الانتخابية الناقدة لما بدا استعجالا من جانب خصمه للخروج، حين قال انه يريد ـ كما اوباما ـ إعادة الجنود الامريكيين الى العراق، لكنه يريدها عودة المنتصر وليس المهزوم. واذا كان الجمهوريون يشيرون عادة الى «القاعدة» بوصفها الطرف الذي سيستفيد من الانسحاب إلا ان الواقع على الارض يشير الى ان الاخيرة ومهما ادعت من نصر ليست اكثر من بيدق وظفت رعونته وهمجيته وعدميته في الصراعات الوجودية للآخرين. ان المنتصر الحقيقي في نظر الامريكيين سيكون الجانب الايراني في الغالب، الامر الذي يفسر ما بدا انه قبول امريكي ضمني لدعوة الحكومة الافغانية للتفاوض مع حركة طالبان التي هي مرادف لـ«القاعدة» في الذهن الامريكي.

إن فرصة تحقيق «القاعدة» لأي نصر استراتيجي في العراق تكاد تكون معدومة، لا لكونها ـ وخلافا للحالة الافغانية ـ دخيلة على البنية الاجتماعية العراقية فحسب، بل وايضا لأن أضدادها أسسوا لأنفسهم ما يكفي من قوة وقدرة على حصرها وإضعافها بل ان البعض يعتقد ان الوجود الامريكي هو السبب الوحيد الذي يمنع من دحرها تماما. لذلك تبدو ايران هي المستفيد الاكبر من حالة «اللا نصر» الامريكية، ولكن خلافا لما تفترضه البديهية السائدة فان هذه الاستفادة نبعت، وبمفارقة، من الوجود الامريكي الذي باستمراره وفّر وسيوفر الفرصة لتأكيد النجاح الايراني إقليميا وتوسيع نطاقات نفوذه، الامر الذي قد يثير تساؤلا عما اذا كان الايرانيون يرغبون فعلا بخروج امريكي من العراق، او عن طبيعة الخروج الذي قد يسعون إليه ؟؟

إن ايران لا ترغب بحصول الادارة الامريكية على فرصة الخروج بمعزل عن الواقع الذي باتت هي حاضرة فيه، وبقدر ما ستبدو الاتفاقية الامنية إطارا شرعيا لما يمكن للجمهوريين ان يعتبروه «انتصارا» في الحد الاعلى و«خروجا مشرفا» في الحد الادنى، لن يكون الايرانيون ميالين لدعم هذا الخروج حتى مع كونه ينهي ما يعتبره البعض قلقا ايرانيا من «الجوار مع امريكا». على العكس، هذا الجوار مثل عنصر استقواء لايران ليس فقط من حيث كونه أطاح عدوا تقليديا للجمهورية الاسلامية، بل وايضا لأنه سمح للايرانيين بجعل 140 الف جندي امريكي في العراق بمثابة الرهينة، بدلا من ان يكونوا عنصر ضغط على السياسة الايرانية. الافتراض السهل بان الوجود الامريكي على مقربة من ايران وحلفائها سيدفعهم الى تغيير مدركاتهم أثبت أن نقيضه هو الصحيح، حينما منح هذا الوجود ما يسمى بالمعسكر المتشدد في المنطقة ورقة إضافية للتأثير على المعادلات الاقليمية. فأمريكا في العراق ما زالت بعد خمس سنوات ورغم بعض النجاح النسبي في طمأنة الوضع غريبة على تضاريس المنطقة، بل انها نزفت حد ان تحولت فرصتها لإظهار كم هي قوية الى فرصة للآخرين لاظهار كم هي هشة. الوجود الامريكي في العراق قدم لصانع القرار الايراني استثمارا ايديولوجيا متناغما مع التراث الفكري للمنطقة غير المتعاطف مع الامريكيين والذي بالقطع سيديم زخمه ويبقيه استمرار احتلال بلد عربي ومسلم، الامر الذي يفك ما يعتقد البعض انه طلسم الموقف المتحفظ الذي تتخذه بعض الاحزاب الاسلامية العراقية المستفيدة الاولى من الاطاحة بنظام صدام من الاتفاقية، فهم مجبرون على إغفال هذه الاطاحة بعدم نقلهم لامريكا من خانة «الخصم الايديولوجي». كذلك فان الوجود الامريكي وفر لايران اسمنتا يعزز «التراص الداخلي» في مواجهة «التهديد» الذي في الحقيقة كلما غدا قريبا صار بعيدا لأنه في اقترابه ساعد التيار المحافظ على تعزيز سلطاته وقبضته، تماما كما ساعدت تهديدات «القاعدة» اليمين في امريكا، الامر الذي اضعف التيار الاصلاحي الذي بعد كل شيء هو البديل الواقعي الوحيد لطاقم المتشددين، بل ان هذا الوجود ساعد في إضعاف حجة الاصلاحيين مقابل نجاح المحافظين في استثمار الوعي الناتج عن حقيقة ان امريكا اصبحت اضعف عندما اقتربت من حدود ايران، الأمر الذي يمكن ربطه ببعض القراءات التي تعطي المواجهة بعدا دينيا يزج ارادة الله في تفسير النتيجة، فبعد كل شيء مَنْ غير الله جعل امريكا ترتكب هذه الاخطاء..؟؟

مشروع الشرق الاوسط الجديد هو أحد اكبر ضحايا سعي الامريكيين لتحقيقه، فبدلا من «أمركة» المنطقة فإن «معسكر الممانعة» المكون من دولتين ونصفي دولتين (حماس و حزب الله) اصبح أكثر قوة، والمنطق «الأنتي ـ امريكي» اصبح مثمرا ومنتجا. فهل يبدو مع ذلك ان القراءة الاستراتيجية الايرانية تلهث نحو خروج امريكي سريع من العراق ؟.

إن وجود الامريكيين يبدو وللمفارقة حائلا دون تعرض ايران لضربة عسكرية من حيث ان الطابع المرتهن لهذا الوجود يوفر للايرانيين فرصة الرد المؤلم بعد ان ادرك الجميع ان محرقة كبرى ضد الجيش الامريكي قد تنهي أي آمال امبراطورية لدى الولايات المتحدة وحيث المزاج الشعبي فيها يتجه الى معاقبة سياسة التورط وحيث عززت الأزمة المالية من رغبة الانكفاء الى الداخل. لذلك، ربما لا يكون الخروج الامريكي السريع هو الرغبة الايرانية إلا اذا كان خروجا يطمئن الهمَّ الايراني، وهو ما يمكن ان تقدمه ادارة امريكية لا تريد تحمل شيء من إرث بوش.