سكر بنات

TT

شاهدت فيلم سكر بنات للمخرجة اللبنانية نادين لبكي والذي يعرض في لندن هذه الايام. أقنعتني المشاهدة بأنه عمل تبلورت فيه أدوات فنية عالية ابتداء من السيناريو ومرورا بالأداء التمثيلي والإخراج والموسيقى. ولم تكتف الجميلة لبكي بالإخراج، بل شاركت في التمثيل وفي كتابة السيناريو مع جهاد حجيلي ورودني الحداد. لن يختلف معي من شاهد الفيلم على انه فيلم يرى الدنيا بعيني امرأة، ويوجه رسالة الى الرجل: هذا ما هو عالمنا السري الذي أجبرتنا على سكناه لكي نعيش في عالمك. وثانيا ان المحصلة الفكرية والنفسية التي يخرج بها المشاهد تشير الى ان المرأة مخلوق قابل للكسر ولكنها تصبر على الألم وتتحايل على الظروف وتستقبل التئام الكسور بفرح تشاركها فيه النساء على اختلاف اعمارهن واشكال المعاناة. المرأة تنظر لألمها نظرة مباشرة وتسخر منه حتى وهي دامعة العين مكسورة الخاطر.

نادين لبكي تكشف جانبا من الحياة في بيروت بعيدا عن الرونق المصطنع الذي تستقبل به المدينة السائح وعابر السبيل الذي يدخل ويخرج وفي رأسه أطياف وانطباعات غرست نفسها في وجدانه من فيديو كليب أو أغنية مرحة تتأود فيها مطربة احتكرتها واحدة من شركات الانتاج الاخطبوطية. مثله نادرا ما تصادفه طنط روز المنكبة على ماكينة الخياطة وقد تمسكت ببقايا ماض عاشته بكرامة. وقد يلتقي بعزيزة المخبولة في الطريق، ولكنه حتما لن يتوقف لكي يحلل احتياجها للرومانسية وهي قاب قوسين او أدني من نهاية العمر. ونادرا ما يشهد الزائر نموذج الترابط الأسري في البيت اللبناني في أحرج الأوقات. جيزيل عواد وياسمين المصري وجوانا مكرزل والبطلة لبكي قدمن سوناتا حزينة لقضايا انسانية بالغة العمق والرقة تجاوزت الحدود السياسية والجغرافية والدينية في العالم العربي من شرقه الى غربه. ولعل مهارة لبكي تجلت في اختيار عنوان الفيلم؛ فسكر البنات هو الطبخة التي تتعلمها الفتاة في اول المراهقة وتتقنها في الشباب وتوظفها في منتصف العمر وما بعده لكي تقدم نعومة البدن قربانا للحبيب والزوج. ومن هذا المدخل نتابع فصول الدراما التي تعيشها فتاة تدير صالون تجميل متواضعا. وهي ثلاثينية وجميلة و لم تتزوج فترضى بعلاقة سرية مع رجل متزوج الى ان تدخل حياتها زوجته التي تأتي الي صالون التجميل كزبونة تطلب نعومة السكر لكي تقدم تلك النعومة قربانا لزوج لم تكتشف خيانته بعد. وقبل ان نفيق من هول المفارقة تلتهمنا معاناة مطلقة متوسطة العمر تؤدي اختبارا أمام الكاميرا لكي تحصل على عمل في الاعلانات وتفشل حين تفشل كل الدهانات والأصباغ في ستر ما فعله الزمن وما تظهر أماراته على ملامح الوجه والجسد.

والذي يدعو الى الاعجاب حقا هو ان لبكي لا تسمح للدراما ان تتحول الى الميلودراما. فالبديهة الساخرة حاضرة لتخطف اللحظة الانفعالية وتدفعها نحو واقعية انسانية جاذبة. هناك مشاهد أعدت لتكون على حساب الرجل. حين يدخل رجل صالون التجميل طواعية، عليه ان يجرب لسعة سكر البنات ينتزع الشعر انتزاعا من بين حاجبيه، ويخرج من الصالون وقد فارق شاربه وجهه الى غير رجعة حتى وان كانت أظافر يديه تحسنت بعد المانيكير.

حلاوة السكر ومرارة الألم تجتمعان في هذا العمل الفني الجميل الذي عرض بنجاح في عواصم العالم. تحية لنادين لبكي وكل من ساهم في نجاحه.