«يا مدلدل بن عمي»

TT

من منكم يتذكر صورة مايكل جاكسون الشهيرة وهو «يدلدل» ابنه من الشباك في أحد فنادق ألمانيا، أمام حشد من المعجبين والمصورين الذين تجمهروا في الساحة الأمامية للفندق، التي أثارت وقتها انتقادات واسعة من الرأي العام الغربي ومنظمات حماية حقوق الطفل ومنظمات إنسانية وحقوقية عديدة؟ بعض المعنيين في الصحف والفضائيات، حكومات أو أفرادا، يكررون فعلة جاكسون كل يوم، و«يدلدلون» علينا كتابهم ومثقفيهم من تلك النوافذ أو الشبابيك الالكترونية، ولا نعرف كيف أصبح لهؤلاء الحق في أن يطلوا علينا بشكل يومي أو أسبوعي، ما هي مؤهلاتهم أو خبراتهم التي تؤهلهم لنصح العامة؟ من تلك النوافذ الالكترونية يدلدل هؤلاء أرجلهم ويتفننون مرة في إلقاء قشور لب «يقزقزونه» على المارة، ومرة يرموننا ببقايا أطعمة يأكلونها، ومرات مرات يسح منهم علينا ما لا يستحسن ذكره.

في بلاد الغرب، وحتى في بعض بلاد الشرق، هناك معايير ومؤسسات حاكمة نثق فيها تقول إن فلانا أو علانا مؤهل كي يعتلي هذا المنبر أو ذاك. في الغرب يصعد الكاتب والصحافي بحكم التجربة الطويلة سلم الكتابة خطوة خطوة، نراه وهو يصعد بسهولة أحيانا، ونراه وهو يتعثر في الصعود أحيانا أخرى، وننتظر اللحظة التي يصل فيها إلى الشباك ليطل علينا معلقا ومحللا، ينقل لنا خبرته التي أنضجها علم أكاديمي صارم وعمل دؤوب وسنوات خبرة طويلة. أما في العالم العربي، فجأة يطل علينا من شباك صفحات الرأي في الجرائد أو برامج التلفزيون الفضائية، بيروقراطي سابق أو ضابط سابق أو مخبر سابق، ليحلل وينظر ويدلي بدلوه في قضايا كبرى، ولا نعرف من الذي «يدلدله» علينا من فوق ويمسك به من خلف الشباك ليلقي علينا قشور اللب، واللب هنا ليس بمعنى العقل أبدا وإنما اللب الذي «يقزقزه» مثقفو الحكومة. من أين أتى هؤلاء؟ هل لنا أن نعرف الـ«ريسومية» الخاصة بهم؟ أين تعلموا، وأين عملوا، وما الذي حصلوا عليه من خبرة تؤهلهم للكتابة في الشأن العام أو لإبداء الرأي الخبير في قضية ما؟ المؤسف أن الأمر لم يعد مقتصرا على الصحافة المكتوبة فقط، وإنما الفضائيات أيضا بدأت «تدلدل» علينا بشرا ممن يخرون ماء طهورا كل ساعة وعلى مدار الساعة، من دون أن تقول لنا هذه الفضائيات من أين أتى هؤلاء ومن هؤلاء؟ وعلى أي أساس تم اعتمادهم خبراء لتشكيل وصياغة الرأي العام في مجتمعاتنا؟

المشكلة الرئيسية في الإعلام العربي اليوم هي ثقافة الإعلام الرخيص أو «الاسترخاص». فظاهرة الاعتماد على المحلل، بشكل عام، هي نتيجة لفقر الصحافة أو الفضائيات للخبر، فمن الأرخص للمؤسسات الإعلامية أن تأتي بمحلل أو كاتب رأي ليتكلم أو يكتب عن ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو رياضية، بدل أن تقوم هذه المؤسسات بتدريب صحافيين تدريبا عاليا وجادا يؤهلهم لتقديم تقرير متكامل عن خبر أو حدث يراد تحليله. تركيب القصة الخبرية التلفزيونية أمر مكلف ماديا، يتطلب استعدادا مسبقا ومبكرا لالتقاط القصة في وقتها ومكانها، حيث يتطلب جهد فريق عمل كامل من صحفيين يخططون للعمل، ومراسلين على الأرض مكان القصة أو الحدث، Future Planning المستقبلي وأذونات تصوير، إن كانت هناك جهات رسمية وحكومية ضالعة في الموضوع، إذا استلزم الأمر، هذا كله Narration، ومن ثم عمل مونتاج للقصة والكتابة لها يكلف المؤسسة الإعلامية أموالا كثيرة وجهدا كبيرا وسباقا ضاغطا مع الزمن ولا يتم بالطبع من دون وجود كادر صحفي مدرب ومؤهل مهنيا، لذا تفضل الصحف والقنوات الفضائية أن تتجنب كل هذا الصداع، وتقدم من شباكها خبيرا لا نعرف من هو، ولا كيف أتى بتلك الخبرات المتنوعة في التنقل مثل طائر «الحسون» في الحديث من سوزان تميم، إلى قضايا التسلح النووي، إلى العلاقات الأمريكية ـ العربية، إلى تنظيرات حول «القاعدة»، قاعدة بن لادن لا القاعدة الأمريكية.. كل هذا يعرفه شخص خبير واحد لا نظير له ولا مثيل له ولم تنجب النساء شبيها له من قبل. هذا الشخص هو البديل الأرخص والأسهل عن القيام بعمل قصة صحافية جادة، فبدلا من التعب ووجع الدماغ اللذين تستلزمهما القصة الصحافية من استقصاء وبحث قد تصل مدتهما إلى الشهور والأسابيع، تستعيض الصحيفة بشخصية «المدلدل»، أي تتخلى الصحيفة أو القناة عن كونها قناة وصحيفة إخبارية إلى كونها صحافة رأي، الرأي والرأي الآخر، بدلا من الخبر والخبر الآخر. وتحرم المشاهد أو القارئ من الصحافي الجاد الذي يقدم لنا الخبر والمعلومة والحدث كما هي، بتوازن ودقة وموضوعية وحيادية تامة. تنشئ المؤسسات الإعلامية الغربية مثل البي بي سي، Journalism School، مدارس إلكترونية للصحافة على مواقعها الانترنتية لتدريب الصحافيين الجدد على أسسها المهنية والاخلاقية، تكون بمثابة المرجع الذي يعود إليه الصحافي المتدرب أو الجديد عند الحاجة أو حتى يتمكن تماما من أدوات مهنته، وتقوم المؤسسة ذاتها بتطوير هذه المدرسة الإلكترونية كلما استدعت الحاجة. وينصح كل أفراد فريق العمل على اختلاف سنوات خبرتهم، بأن يراجعوا هذا الموقع الإلكتروني كلما سنحت لهم الفرصة للاطلاع على أي تطور أو تعديل طرأ عليه. هذا التأصيل للعمل الإعلامي الذي يحدد المعايير المهنية المطلوبة ضروري، فهو الذي لا يقبل أن تكون المؤسسة الإعلامية مؤسسة رأي لا خبر، وهو الذي لا يقبل أن «يدلدل» له خبير من نافذته الإعلامية.

هؤلاء الأشخاص يفرضون عندما يكون السلم المؤدي الى النافذة غير متاح لأصحاب الكفاءات والموهبة الحقيقية. عندما تتحكم الحكومات أو وكلاء الحكومات في النوافذ الإعلامية، لا يكون هناك تنافس إيجابي على صعود السلم المهني ووصول من هو أجدر وأكثر علما وكفاءة، فالحكومة تأخذ من تريد وفجأة «تدلدله» علينا من النافذة، وعلى الجمهور أن يتقبل ما يعرض عليه من نافذة الحكومة ونافذة الفضائيات. المفارقة هي أن بعض الحكومات العربية اليوم وكثير من المؤسسات الأهلية، التي من المفترض أنها تخطو نحو التقدم، تمنح جوائز إبداع وجوائز صحافية لشخص كل إمكاناته أنها، أي هذه الحكومات والمؤسسات، هي التي «دلدلته» علينا من الشباك. وعلينا أن نقبل الماء المتسخ الهابط منه على رؤوسنا.

هل لنا أن ننتقل من صحافة «الدلدلة» التي تستسهل وتسترخص، إلى الصحافة الخبرية والحرفية المكلفة ماديا وحرفيا؟ وهذا الانتقال لن يتم ولن يتطور الإعلام العربي ما لم نعرف أين هو السلم المؤدي للشباك أو النافذة التي يطل علينا منها المثقفون والخبراء والمحللون. أما أن يظل السلم خفيا وتمتلئ شاشاتنا وصحفنا بالسابقين لا اللاحقين، من وزير سابق أو قريب وزير أو ضابط سابق أو بيروقراطي سابق، فعندها سيكون «المدلدل» هو الخيار الوحيد، وستكون لدينا حرية الاختيار بين «مدلدل» الحكومة أو «مدلدل« المعارضة، «مدلدل» القطاع العام، و«مدلدل» القطاع الخاص، ولا يبقى لنا سوى أن نغني مبتهجين معا مع مطربة البادية السمراء سميرة توفيق: يا «مدلدل» بن عمي.