كرة الثلج

TT

في مؤتمرين مختلفين في مدينتين أوروبيتين خلال أسبوع واحد، كان جليّاً أن المتحدثين من أوروبيين وأمريكيين بدأوا يسألون أسئلة عميقة وجذرية، حول المحطة التي وصل إليها العالم اليوم، والجهة التي سيتخذها وينطلق إليها من هذه المحطة.

كانت الأسئلة منعشة وتؤكد في جوهرها على السأم من الفلسفة التي تبناها المحافظون الجدد في السنوات الأخيرة والتي تجسدت في مقولتهم: «إن المسلمين يكرهوننا، يكرهون حريتنا وديمقراطيتنا»، وإننا «يجب أن نقتلهم في ديارهم قبل أن يتحركوا ليقتلونا في ديارنا» والتي يمكن أن تتلخص في شعار «نحن ضدهم» الذي يقسم العالم إلى فريقين متناقضي المصالح والتوجهات. حيث أكد الخبراء والفلاسفة وحاصدو جوائز نوبل، أن الأزمة المالية الأخيرة قد برهنت أن لا أحد يمكن أن ينجو من عواقب سياسات يُفترض أنها تؤثر على جهة دون أخرى. وأن ضعف آسيا وأفريقيا ينعكس أو انعكس على مشاكل جوهرية في أمريكا وأوروبا، وأن زعزعة الاستقرار في العراق وأفغانستان واستمرار الاحتلال في فلسطين والأراضي العربية المحتلة له إرهاصاته على المنطقة والعالم. وفي مداخلته دعا أحد المتحدثين إلى طرح فكرة الاستقلالية جانباً، والاعتراف بأن العالم متداخل ومعتمد على بعضه البعض، وأن كلّ توجه يجب أن يأخذ هذه الفكرة الأساسية في الحسبان. كما أكد متحدث آخر على مفهوم الهوية والثقافة، وانه لا يوجد سلّم يصنف الثقافات إلى درجة أولى ودرجة ثانية ودرجة ثالثة، فثقافات الشعوب وفنونها وحضارتها لها ذات الدرجة من الأهمية، لأنها تعبّر عن تراكم تجارب إنسانية في مناطق مختلفة من العالم، وليس من حق أحد أن يفاضل بين هذه التجارب الإنسانية أو أن يروّج لتفوّق بعضها على البعض الآخر. وأكد أن هذا الاختلاف في الثقافات هو نعمة لا نقمة، وأننا يجب أن نؤمن أن هذا الاختلاف هو قائم وأساسي ومصدر غنى ومن العبث محاولة توحيد ثقافات البشر كي تأخذ صبغة واحدة، وتبدو في أعين الجميع ذات لون واحد وجوهر واحد وهدف واحد. وفي هذه المقولة محاولة لإعادة تعريف تيار العولمة، الذي حاول في العقد الأخير أن يعرّف العولمة على أنها طغيان الحضارة الغربية على كلّ شعوب الكون، وإيجاد تعريف جديد للعولمة ألا وهو تمازج الثقافات وتعايشها في ظلّ احترام متبادل ونظرة متكافئة لجميع الأطراف. حتى حائزو جائزة نوبل في الاقتصاد وجهوا أسئلة جذرية حول الهوية الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي والتي تؤثر من دون شك على هويته الاجتماعية والسياسية، وتساءل أحدهم ما إذا كان يجب العودة إلى العائلة كنواة أساسية في المجتمع، وليس الفرد، لأن المجتمع القائم على الفرد يسهل انهياره وتفكيكه، أما العائلة فهي وحدة أقوى ويقدّم أفرادها الدعم في مراحل عمرية مختلفة بحيث يصبح النسيج الاجتماعي أكثر تماسكاً. هذه الطروحات تمثّل بحد ذاتها تشكيكاً جوهرياً في نتائج المسار الرأسمالي المعولم المعتمد على السلاح والقوة والهيمنة والأنانية الفردية المفرطة.

وفي مؤتمر آخر في مدينة برشلونة، وهو المؤتمر الثالث لحركة التحرر النسوية الإسلامية، بدأ المسؤولون في الاتحاد الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة في افتتاح المؤتمر بالتأكيد على أن المشترك بين المسلمين والغرب هو أعمق وأكثر بكثير ممّا يفرقهم، وقال أحد المتحدثين «منذ وقت قريب كانت جداتنا في الأرياف تلبس ألبسة متشابهة جداً، وتقوم بأعمال متماثلة وتعيش حياة قريبة جداً من حياة أخواتها المسلمات، فلماذا هذا الوهم بأننا ننتمي إلى عالمين مختلفين جداً؟ ولماذا نضخم خلافاتنا بدلا من أن نتحاور ونتعلم من تجارب بعضنا البعض»؟ وذهبت إحدى المتحدثات إلى تذكير زميلاتها في المؤتمر بألا تحاول أي منهن التبرع بإعطاء دروس لبلدان إسلامية لتحرير نسائهم إذ أن النساء المسلمات قادرات على خوض معاركهن الخاصة بهن ولسن بانتظار الغرب كي يأتي بوصفته لهن ويحررهن، وأن أي حديث من هذا النوع أو أي مبادرة سوف يتم النظر إليها بأنها حلقة أخرى من الاستعلاء الغربي، وإيمان مبطن بتفوق الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى واتخاذها موقع المدرّس الذي يلقن تلاميذه الدروس. وقد أتى هذا بعد أن أحبطت مجموعات من المتظاهرين ما حاول اليمينيون القيام به في مدينة كولون الألمانية، حيث توجهوا إليها لمنع بناء جامع بها فتصدى لهم المتنورون من أوروبيين، مسيحيين ومسلمين، وقوضوا مظاهرتهم وأعادوهم خائبين، وغدا من الواضح رغم الرقابة الإعلامية الشديدة أن الغرب بدأ يدرك خطورة تقسيم العالم إلى عالمين متناقضين وخطورة تصوير الإسلام وكأنه العدو، وخطورة زرع بذور الخوف من المسلمين والمسلمات في الغرب.

إن ما حاول فعله المحافظون الجدد في السنوات الأخيرة، هو زرع بذور الخوف وتهويل الأخطار القادمة من الآخر، فغزوا أفغانستان والعراق، وأنفقوا مليارات الدولارات على الحرب المزعومة ضد الإرهاب، والتي زادت الإرهاب انتشاراً في جميع أنحاء العالم، وتكاد تقود العالم إلى انهيار مالي وكساد اقتصادي يدفع ثمنه أولا الفقراء وكبار السن في الغرب قبل الشرق. وقد يكون هذا التطوّر الاقتصادي الأخير، والذي يبدو أنه خرج عن نطاق السيطرة، بمثابة جرس الإنذار للشعوب بأن من يقودها آخذ بها إلى التهلكة، وعليها أن تتوقف وتفكّر لنفسها وترفض ما يتعارض مع حياتها ومستوى معيشتها وأمنها الإنساني. قد تكون الأزمة في النهاية هي أزمة قيادة، وبدأت شعوب الغرب تعي ذلك وتبحث عن قادة يمثلون العناصر الأساسية والواقعية لحياة البشر فلا يخلقون من خيالهم حيوات افتراضية ومعارك دانكشوتية، ويبنون عليها قراراتهم وتوجهاتهم المستقبلية.

والخطوة العملية الأولى في إعادة تعريف هذه التوجهات هي المؤتمر الذي دعت إليه أوروبا في الصين، والذي سوف يجمع الدول الغربية مع الدول الآسيوية لبحث آفاق الأزمة الاقتصادية، ووضع الأسس الموضوعية لتجاوز هذه الأزمة سوياً، والانطلاق منها إلى مستقبل إنساني مشترك. هل يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية الكبرى في العالم اليوم، قد أقنعت بعض المتعجرفين في الغرب بالإيمان بأن الإنسانية في قارب واحد، شئنا أم أبينا، وأنه عليهم أن يعيدوا تعريف سياساتهم واستراتيجياتهم وفق هذا المنظور؟

ويبقى السؤال الأخير أين هم العرب في ظلّ هذه المتحولات جميعها؟ لقد كان البعض منهم يبرّر حياديته وعدم انخراطه بالقول إن أعتى قوة في العالم تفعل ما تريد، ولن نتمكن من فعل شيء لإيقاف هذا البحر الهائج، أما وقد انحسر هذا الهيجان والتأمت مجموعات كثيرة على الشاطئ تحاول أن تتقاسم المواقع والرمل والمياه والمنظر والمصلحة، فكيف يمكن للعرب أن يكونوا بعيدين عن هذا الحدث، الذي يحاول أن يعيد رسم خريطة العالم من جديد؟ هل يمكن أن نعترف بصدق أن عدم إجماع العرب على موقف وكلمة، يلحق الضرر بمكانتهم على المستوى الدولي والمستقبلي؟ وهل يمكن أن يتم استدراك هذا الأمر لما فيه مصلحتهم ومصلحة العالم أجمع؟ لا شك أن التوجه الجديد في العالم كله، هو كرة ثلج بدأت بالتدحرج، وفي وقت قصير جداً ستشكل هذه الكرة المشهد الكوني الأساسي، ومن الضرورة والحتمية بمكان، أن يشكّل العرب بحضارتهم وتاريخهم وثرواتهم جزءاً مهماً من هذا المشهد، وأن البداية يجب أن تكون اليوم، أو البارحة!

www.bouthainashaaban.com