أيّهما أفهم بهموم أميركا.. جو «السبّاك» أم بول كروغمان؟

TT

معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية الآتية استثنائية بكل المقاييس.

لا حاجة للخوض في تفاصيل اللون والعرق والسن والجنس.. إنها استثنائية وكفى.

مع هذا، إذا كان الاقتصاد سيُعيدها إلى المسار المألوف لأي انتخابات في دولة ديمقراطية... فالخيارات حينئذ قاطعة.

ففي ظروف الأزمة المالية العالمية، التي أسهمت فيها الولايات المتحدة وتأثّرت بها بنسبة كبيرة جداً، لا مجال للتردّد أو الضياع بين «مدرستين» سياسيتين اقتصاديتين واضحتي المعالم يمثلهما المرشحان الجمهوري جون ماكين والديمقراطي باراك أوباما.

فجون ماكين ـ على الأقل من ناحية السياسة الاقتصادية ـ يمثل التوجّه الرسمي للحزب الجمهوري منذ مطلع القرن العشرين. في حين يمثل باراك أوباما النهج النقيض الذي زكّته بعد «الكساد الكبير» بنهاية العشرينات سياسات فرانكلن روزفلت و«صفقته الجديدة» في حقبة الحرب العالمية الثانية.

ولقد كان «شبه طبيعي» في رأي كثيرين إبان اشتداد الاستقطاب الرأسمالي ـ الاشتراكي أن تنجرف قطاعات من الطبقات العاملة ـ المستفيدة افتراضياً ـ من «دولة الضمانات الاجتماعية» بفعل وعود خفض الضرائب وإزالة الضوابط المفروضة على الشركات باتجاه الخطاب الشعبوي، الذي يهاجم «اشتراكية العوز»... ويزيّن لأي معدم الإثراء السريع الذي روّج له رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت ثاتشر في بريطانيا خلال السنوات الأخيرة من عمر الحرب الباردة.

وحقاً، نجحت «شعبوية» ريغان في سحب نسبة لا بأس بها من ناخبي الطبقة العاملة وما دون المتوسطة إلى خانة الجمهوريين.. صاروا يُعرفون بـ«ديمقراطيي ريغان»، بعدما أقنعتهم بأن السوق وحده، لا الدولة ولا ضماناتها، هو طريقهم إلى الأمان ومن ثم البحبوحة.

وبلغت هجمة اليمين قمتها عندما نجح الكونغرس تحت قيادة رئيس مجلس النواب الجمهوري اليميني نيوت غينغريتش في إجبار رئيس ديمقراطي هو بيل كلينتون على التراجع عن أسس «الصفقة الجديدة» في أواخر التسعينات.

صدمة انتهاء «الحرب الباردة» بـ«زوال العدو» الذي كان الغرب يرصد تريليونات الدولارات لقهره كان لا بد أن تنعكس على الواقع الاقتصادي.

لقد كانت «الحرب الباردة» مورداً مهماً جداً للصناعات العسكرية التي هي «رأس حربة» أي صناعة في العالم الرأسمالي و«حقل تجارب» بديهي لأي تطوّر تكنولوجي خلفه استثمارات ضخمة ترصد له. ثم أن مجتمعات ومدناً وقواعد عسكرية مساحاتها اكبر من مساحات المدن المجاورة لها كانت تعيش على «العسكر» والمصالح العسكرية والخدمات الثانوية التي ترفدها سواء في أميركا أو أوروبا.

فجأةً، كما فسّر فرانسيس فوكوياما ـ وأخطأ ـ... «انتهى التاريخ»!

صحيح، من الناحية الآيديولوجية، سقطت الشيوعية لأنها عجزت بعد عشرات السنين عن خلق المجتمعات القادرة على الاقتناع بها والدفاع عنها، بعدما كانت قد فشلت في تطوير ذاتها واستيعاب متغيرات العالم. ولكن الصحيح أيضاً أن البديل الرأسمالي المنتصر لم يكن خالياً من العيوب. واليوم بعد أقل من 20 سنة على انهيار «جدار برلين»، برمزيته المفصلية في تاريخ العالم المعاصر، تدفع الرأسمالية الجامحة ـ تماماً كالشيوعية الجامدة ـ من وجودها... ثمناً باهظاً لـ«دوغماتيتها» المريضة.

جو ورزلباشر، سباّك (سمكري) من مدينة توليدو بولاية أوهايو، صار في آخر أيام المناظرات الانتخابية بين ماكين وأوباما أحد أشهر الأسماء في أميركا، لأنه واجه المرشح الديمقراطي أوباما وانتقد سياسته الضريبية قائلاً له أن رفعه (أي أوباما) الضرائب سيحرمه من شراء المؤسسة التي يعمل فيها.

طبعاً، كانت هذه المداخلة من مواطن أميركي يتميّز بالطموح وروح المبادرة ـ من وجه نظر المؤمنين باقتصاد السوق ـ خير دعاية للسناتور ماكين الذي أخذ يستشهد به في كل مناسبة.

وأيضاً كان من الطبيعي جداً أن يبالغ ماكين في استثمار حالة جو «السبّاك»... بالنظر إلى حاجته الماسة لتنشيط حملته بعدما أظهرت أحدث استطلاعات الرأي تخلفه عن منافسه بفارق لا يستهان به.

غير أن المشكلة التي تواجه أميركا اليوم أكبر بكثير من طموح سبّاك يكره دفع الضرائب ويتوق لشراء المؤسسة التي يعمل فيها.

إنها، كما قال بالأمس آلان غرينسبان، رئيس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) المتقاعد مقراً بأنه أخطأ قراءة مؤشرات الخطر... «تسونامي مديونية يحدث في القرن مرة».

بل لعله من قبيل المفارقات الموجعة للجمهوريين أن يهتّز هيكل اقتصاد «اللا ضوابط» وتنهار صدقيته في العام الذي يفوز فيه بجائزة نوبل للاقتصاد بول كروغمان، العلامة والأكاديمي والاقتصادي الذي كان وما زال من أشد المنتقدين للسياسات المالية والاقتصادية المتحرّرة من كل المعايير المهنية والأخلاقية... والقائمة على تسويغ الجشع وتبرير مقامرة القلة بأرزاق الكثرة.

ثم أن ماكين، على الرغم من استشهاده بحالة جو «السبّاك» ووعده بالاهتمام بقضايا أمثاله، يدرك في قرارة نفسه كم هي ثقيلة التركة التي أورثته إياها ثماني سنوات من حكم الرئيس جورج بوش «الابن» وأعوانه ومستشاريه، بدليل حرصه الشديد على أن ينأى بنفسه عن كل ما يربطه ببوش وعهد بوش، ورفضه أن يشارك الرجل الذي حكم أميركا طيلة السنوات الثماني الأخيرة في حملته الانتخابية.

على أي حال الناخبون الأميركيون، وحدهم، سيقررّون. وحدهم سيفاضلون بين أحلام أمثال جو «السبّاك» الذي لا يفهم من الاقتصاد إلا ما يمسّه مباشرة، وبين علمية بول كروغمان الذي يرى الصورة بشمولية أكبر... وقد حذّر طويلاً من خطر وحش لا يشبع ولا يرتوي ولا يرتدع.

القرار في نهاية المطاف بيد الأميركيين الذين منهم نماذج من هذا وذاك.