البحث عن «مارتن لوثر»!

TT

كثر الحديث عن الوسطية في الفكر والممارسات الدينية في العالم الإسلامي، والوسطية كلمة لافتة، إذ أن لها تفسير خاص وشخصي لكل من يتداولها، وبالتالي ما يراه «زيد» أنها وسطية قد يراه «عمرو» أنها انحلال وتسيب وانفلات. وبالتالي دخل العالم الإسلامي في دوامة البحث عن شخص أو متحدث باسم الوسطية المنشودة هذه، فظهر عمرو خالد كشيخ وداعية عصري جذب الفتية إليه بحديث مبسط وأسلوب في السرد القصصي جذاب وبمنظر وهندام «مختلف» يحمل في ظاهره الشكل العصري، وطبعا قامت الدنيا عليه ونعتته بأقصى العبارات بأنه دخيل على الأمر ولا لحية وثوب له وهو يتشبه بالكفار إلى آخر الديباجات المعلبة سلفا والمعدة للإطلاق. وظهر في نفس الفترة مجموعة من الشخصيات الدعوية الأخرى، فالحبيب الجفري منع من دخول بعض الدول ونعت «بالمبتدع» وحورب، وكذلك واجه طارق السويدان نفس المصير؛ فاتهم بأنه من الإخوان المسلمين وأن بعض «قصصه» فيها من المآخذ الشيء الكثير، ويوسف القرضاوي الشيخ الذي تبوأ مكانة الأقدمية بحكم سنه اهتزت مكانته حينما أفتى بجواز الانتحار، وهي فتوى حصدت ثمنها الدول الإسلامية نفسها لاحقا دما ودمارا، وحتى سلمان العودة الداعية السعودي الذي انتقل من أقصى اليسار في فكره وتطرفه إلى «مفكر إسلامي» يفتي بالتيسير للمتصلين تلفزيونيا به من أقاصي العالم ويترأس جلسات في منتديات ومؤتمرات عن الحوار بين المذاهب والأديان، حتى هو لقي نفس المصير من التجريح واتهامه «بالتراجع» و«التهاون» والخروج عن «الثوابت» و«الأصول».

وطبعا هناك العديد من الأمثلة الأخرى التي يمكن ذكرها في إطار هذا السياق، وكلها تصب في باب واحد وهو أن البحث لا يزال مستمرا عن «واحد فهمان» كما وصفها لي أحد الأصدقاء، شخصية قادرة على أن تترجم الروح الإسلامية في إطار فقهي ومنهجي عصري يطبق صلاحية الزمان والمكان لمفهوم الشريعة. وهم في هذا البحث الدؤوب يسترجعون التجربة البروتستانتية من خلال رمزها «مارتن لوثر» حينما واجه أباطرة الكنيسة الكاثوليكية وسيطرتهم المحكمة على أي محاولات للتفكير والتدبر والتطوير إلا في إطار محكوم ومغلق أقره مجموعة محددة رحلت وبقي تراثهم سلاسل تكبل العقل.

التحدي الأكبر الذي يواجه الوسطية اليوم هو أنه لن تقوم الوسطية بالاعتماد على نفس الأسلوب القديم لأنه هو تحديدا كان سببا مباشرا في ولادة التزمت والتطرف، فالتالي التفكير خارج الصندوق ليس فقط مطلوبا بل إنه ضرورة حتمية. الأرضية خصبة تماما وجاهزة لظهور فكر ومفكر جديد يحرك المياه الفكرية الراكدة التي جمدت وهرمت، وبالتالي مطلوب حراك جريء لا يخشى فيه المفكر على «خسارة قاعدة جماهيرية» أو«اهتزاز صورته أمام أحبابه ومريديه» ولكن أن يكون هناك فعلا تسليط ضوء جريء على مشاكل أساسية وجوهرية تتطلب فكرة مختلفة. العالم الإسلامي مطالب بتنقية إصدارات وآراء ومقولات حسبت عليه، وبدون القرارات الجريئة من هذا النوع سنبقى في دوائر البحث عن منقذ والبحث عن بطل ودائرة من التجارب لا نهاية لها.

[email protected]