كتابات للصيف.. ناقلات الأحبة

TT

كتب القدامى كثير الشعر في النوق والإبل والبعائر وخصوصاً في الخيل. وكان الشاعر يقدم لكل قصيدة بوصف المضارب وتعداد الركائب وذكر المشاق، وبعدها ينتقل الى مناجاة الحبيبة او مخاطبة سيف الدولة. وقال المتنبي جميل القول في الخيل وفي النوق، وفقاً لما امتطى وهو في الطريق الى طلب الولاية التي قتل ولم يولها. وقد ترقق على ناقته فقال:

لا ناقتي تحمل الرديف ولا بالسوط يوم الرهان أجهدها وقال وهو ذاهب الى مصر يلاحقه الخوف من سيف الدولة:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة وان كثرت في عين من لا يجرب ولسبب ما، ارتبطت وسائل النقل عندنا بمشاعر الحب وقصص العاشقين، قديماً وحديثاً. وكلما ظهر اختراع في هذه الثورة الصناعية الدائمة كانت له منا اغنية ترافق السرعة وعداد الأميال. والأرجح ان المسألة بدأت مع القطار. ففي الغناء المصري القديم واحدة تقول:

سوّاق القطر النونو، يا لطافتو، شبكتني عيونو اما الباخرة، او «الوابور»، فكانت تنقل المعشوق، وتترك العاشق على رصيف الميناء يغني بلا انقطاع وبلا امل، كما شوهد عبدالوهاب وهو يئن:

يا وابور قوللي رايح على فين/ يا وابور قوللي سافرت منين! وفي موقعة اخرى نرى الموسيقار الكبير على سطح عربة تنقل البضائع وهو يتوسل العربجي شيئاً من السرعة:

اجري اجري وصلني قوام وصلني دا حبيب الروح مستني.

وبدأ التحديث مع المطربة نور الهدى التي دخلت العصر السيار ومنتجات هنري فورد عندما غنت: «يا اوتومبيل، يا جميل، محلاك». ووسعت مواطنتنا الاخرى فيروز عملية النقل لكي تتسع لاكثر من راكب عندما غنت من تأليف ابنها زياد: «عَ هدير البوسطة». وليس في بوسطة زياد ملتاعون وعشاق وملهوفون، على فراق او الى لقاء، بل مجموعة من الناس المنتقلة من «ضيعة عنايا الى ضيعة تنورين». ولا علاقة لأحد منهم بقيس بن الملوّح بل هي مجرد بوسطة فيها، جملة ما فيها «واحد هوي ومرتو، يي شو بشع مرتو». وكانت شقيقة فيروز، هدى حداد، قد سبقتها في الغناء لذوات الدواليب وناقلات الاحبة، فغنت «رزق الله (سقى الله) عَ العربيات/ وعلى ايام العربيات/ من بيت ستي لبيت جدي/ كانت تاخذ ثلاث ساعات». وواضح ان الجد والجدة لا يقطنان في بيت واحد لأن واحداً للأم وواحداً للأب. او العكس. واجمل مناداة عربية للجد هي الفلسطينية، فهم يسمونه «سيدي».

ولعبت البوسطة دوراً درامياً في حياة المطرب الراحل فهد بلان الذي اشتهرت مطالع اغنياته بلازمة ملازمة: هو هو. هو هو. وقد بدأ حياته معاوناً في بوسطة، يجمع سعر التذاكر ويساعد الركاب على وضع حقائبهم على السطح. ولذلك كان اول ما فعل بعد اصابة النجاح انه ذهب الى شركة «سعد وطراد» في بيروت واشترى «رولز رويس» تتباهى على جميع بوسطات الدهر. وغنى اغنيته الشهيرة «لارتشب حدك يا الموتور» بدل الركوب في آخر مقاعد الباص او على درجها. وبعد «الرولز» تزوج من ابنة عائلة لبنانية معروفة. لكنه لم يطق طويلاً الحياة المخملية والرطن باللغة الفرنسية كيفما ذهب وأنى جلس. ولا طاق طويلاً ان يخاطب «شير مسيو بلان». فهجر الزوجة وطفق يتنقل في ليل بيروت والمال يتساقط من جيوبه الواسعة. وبعد فترة باع «الرولز رويس» واشترى جاكوار سبور مكشوفة رمادية اللون. اما كيف اعرف هذه التفاصيل وعين الحاسد تبلى بألف عمى، فلأنني كنت اعمل يومها (1966) في «دار الصياد» واردت شراء سيارة تقسطها الدار عني، فأرسلت الى «سعد وطراد». وسألني روبير طراد، ما هي موازنتك. فقلت ستة آلاف ليرة.

فأجاب: «عظيم. في سيارة فهد بلان الجاكوار. سبور وكشف وما حدا بيسبقك». وخرجت غير مقتنع. ومثل هذه السيارة تساوي الآن نحو 150 ألف دولار. وفي رواية اخرى 100 ألف جنيه. والله اعلم.