نعم... إنها مؤامرة

TT

انا لست ممن ينجرون وراء هوس المؤامرات، ولكنني اجد نفسي شيئا فشيئا أومن بمؤامرة واحدة امتد اجلها عبر مئات السنين وامتدت فصولها على امتداد الكرة الارضية (وأعتذر للكثيرين عندنا ممن لا يؤمنون بكروية الارض) بكل ما فيها من دول وامم. تولى هذه المؤامرة القائمون بالحكم والمسؤولون عن الفكر والثقافة وانصب اثرها على الجمهور واستهدفت المستضعفين من الناس.

ترجع خطوط هذه المؤامرة الى ايام سقراط، وان كنت ارى انها تمتد الى ابعد من ذلك بكثير. غرض القائمين بها هو ابقاء الجمهور على ما هم عليه من الجهل والجهالة والامية.

سألني احد الحاضرين في محاضرة القيتها في البحرين عن الفكاهة وقال لماذا: كان الاقدمون بمن فيهم العلماء والفقهاء والقضاة يتمتعون بذلك القدر من الحرية في ان يقولوا ويكتبوا في كتبهم ويذكروا في اشعارهم من الكلام والكلمات والنكات مما لا يجوز لأي منا ان يقوله او يكتبه الآن؟ لم اعرف كيف أرد عليه. وجدت الموضوع محيرا حقا. فالمفروض ان نكون نحن الآن اكثر حرية من السلف. اثرت الموضوع مع بعض زملائي الصحافيين. لماذا استطاع مؤلف الف ليلة وليلة ان يقول كل ما قال بدون اي مشقة او اعتراض من احد، في حين لم يعد أي ناشر الآن يجرؤ على طبع ما جاء فيها بدون حذف الكثير منها؟

اجابوا وقالوا ان المؤلف كتب حكاياته بالقلم واستنسخت بالريشة بنسخ معدودة ومكلفة لا يستطيع غير الاغنياء شراءها. أما الآن فالمطابع الحديثة تستطيع ان تنتج بايام قليلة الوف النسخ، وبأبخس الاثمان يستطيع اي واحد ان يقتنيها بسهولة. وهذا عين الخطر. سيستطيع كل من هب ودب ان يقرأ ما كان حكرا على الاغنياء. قالوا يا خالد هذه الصحيفة التي تكتب فيها يقرأها مئات الألوف من الناس، كيف تنتظر ان تكتب فيها اي شيء يخطر لبالك؟ يظهر ان المترفين فقط لهم حق الاستمتاع بحرية.

استطيع ان افهم لو ان الموضوع اقتصر على الصحافة والتنكيت والفكاهة. ولكن الامر يتعدى ذلك الى حقول العلوم والفكر والمعرفة. فكثير من الجامعات والمؤسسات تستطيع ان تستورد ما تشاء من الكتب والدوريات العلمية. ولكن المكتبات في الاسواق محرومة من هذه الحرية. لماذا؟ يقولون ان اطلاع البسطاء في الشارع على المستجدات العلمية والفكرية يشوشهم ويسبب «بلبلة» في البلد. اذن فالمسألة ترتبط بالنظرة الى الشعب، مصدر السلطة، كمجموعة من الاطفال الذين تنبغي حمايتهم والحفاظ على براءتهم ومؤانستهم بالاساطير والاشعار الحلوة. لا اكثر من ذلك. المعرفة الحقيقية يجب ان تبقى محصورة في النخبة. حتى امام العقل والمنطق في الفكر الاسلامي، ابن رشد، حذر من اشراك البسطاء في امور الفكر والعقل. ولكنه طبعا لم يكن وحيدا في ذلك. حتى الانكليز عندما لاحظوا انتشار الكلمة المطبوعة، فرضوا لصق طوابع تمغة على النشرات والكراريس ليرفعوا ثمنها، بحيث لا يستطيع العمال شراءها. انها مؤامرة عالمية تاريخية لتجهيل الجمهور وابقائهم على ما هم فيه من التخلف. الاصرار على عدم تبسيط اللغة وتطويع حروفها، الكتابة بأساليب معقدة واصطلاحات مبهمة جزء من هذه المؤامرة. النخبوية أخبث انواع الدكتاتورية.