حتمية التدخل الدولي

TT

لايعني هذا العنوان ان التدخل الدولي الفعال لحل القضية الفلسطينية وانهاء الاحتلال الاسرائيلي سيتم في الظروف الحالية، وانما نقصد الاشارة الى استحالة التوصل الى حل سلمي او حربي عادل في المدى القريب والمتوسط بدون وقفة دولية فعالة... لماذا؟ حسب التجربة، فإن اسرائيل لا تريد تطبيق أي من القرارات الدولية، ولا تريد الانسحاب من الارض باتفاقيات سلمية طالما انها تستطيع الاحتفاظ بالارض عبر القوة والمناورة وفرض الامر الواقع. من جهة اخرى فالقيادة الفلسطينية الحالية غير قادرة على استثمار القدرات الفلسطينية حربياً، ولا حتى قادرة على استنزاف اسرائيل مع الحفاظ على الذات الفلسطينينة، ولا هي قادرة على صنع السلام الناقص، وذلك لأسباب كثيرة. حتمية التدخل الدولي تأتي ايضاً من حقيقة ان الدول العربية لا تستطيع الحرب ضد اسرائيل ولا حتى تسخير الضغط الفعال من اجل السلام لانها فاقدة لاوراقها، وانجرارها بدون اسنان الى مسارات السلام سيقودها حتماً الى الاستسلام كما نرى عملياً في تصرف الكثير من الدول العربية حتى البعيدة جغرافياً عن فلسطين. هذا الضعف العسكري والمعنوي العربي عن تحصيل الحل بالقوة، لايعني انعدام القدرة على الدفاع الفعال ضد عدوان واحتلال اسرائيلي جديد للارض العربية... حالة الدفاع الشعبي اللبناني قابلة للتكرار، كما ان حالة سورية تشكل استثناء رادعا لعدوان اسرائيلي اذ يسود الشعور بأن دمشق لن ترتهب من الميزان الاستراتيجي وسترد بما لديها من قوة مؤلمة جداً لاسرائيل مهما كانت النتائج. الدول العربية الاخرى حول فلسطين، مصر والاردن، مرتبطة بمعاهدات سلام مع اسرائيل، ومصالح اقتصادية مع اميركا ثبت انها اقوى فعلاً من معاهدات الدفاع العربي المشترك... عموماً الدفاع عن الوضع الحالي حربياً شيء والحرب من اجل استعادة الارض المحتلة سابقاً شيء آخر.

في كل يوم نلاحظ ان كل النشاطات العربية الرسمية مهما كان نوعها تصب في نهر مطالبة العالم بالتدخل لفرض السلام، والمقصود هو العالم الغربي، وتحديداً اوروبا الغربية والولايات المتحدة الاميركية. في كل بيان عربي اثر اجتماع حكومي او لقاء قيادي ثنائي او جماعي، رسمي او شعبي، يتبوأ طلب تفعيل الدور الدولي والضغط على اسرائيل لتجنح للسلام سلم الأولويات، فما سبب ذلك الحال وتلك المطالبة؟ لايوجد حتماً أي جواب رياضي او هندسي حاسم يملك ناصية الحقيقة، لكن قد يكون الجواب خليطاً من خلفيات وعوامل عدة... يطفو على السطح للوهلة الاولى ان مطالبتنا بدور خارجي تعود الى قوة اسرائيل ورغبتنا في ابعاد الدعم عنها وتقريبه من الموقف العربي. كذلك هناك شعور قوي بين العرب بأن الغرب هو الذي صنع اسرائيل وقواها وحافظ عليها وما زال يمدها بعوامل الصمود وبالتالي استمرار العدوان وهضم الحق العربي والفلسطيني، وبدون هذا الدعم المادي لن تستطيع اسرائيل الاستمرار في الاحتلال والتعنت، بل تسود القناعة بين العرب انه حتى لو زال الدعم المعنوي والسياسي الغربي فقط عن اسرائيل فأنها ستنهي عدوانها القائم... أي يملك الغرب كدول منفردة او كمجموعة سياسية واقتصادية أدوات ضغط فعالة على اسرائيل، فلماذا اذاً لا يستعملونها؟ الاسباب التي ادت بالغرب الى اقامة وحماية ودعم اسرائيل ما زالت بمعظمها قائمة من المنظور الغربي وبغض النظر عن التأثيرات الجانبية على العرب وعلى الشعب الفلسطيني، ويمكن ايجاز هذا الرأي تحت بند المؤامرة الغربية او الصليبية او الامبريالية على الوطن العربي. قد يكون سبب عدم استعمال الغرب لادوات الضغط على اسرائيل ـ غير المؤامرة ـ هو الاستفادة من استمرار هذا الوضع بدون سلام، فالغرب يبيع السلاح على العرب ويستفيد من التبادل التجاري والهيمنة الاقتصادية، وحالة المطالبة العربية للغرب بالتدخل تعكس وضعية الركون للوصاية الغربية والاعتراف بالعجز الذاتي في مواجهة قضية تدير مستقبل الامة وتتحكم في مجريات الحياة اليومية للدول العربية. يمكن ايضاً العثور على آراء تقول لا وجود لمؤامرة غربية ضد العرب تجند الصراع العربي الاسرائيلي بعد ان خلقت اسرائيل، وتقول لا استغلال غربيا لحالة الصراع والاستفادة اقتصادياً وسياساً من استمرارها، وانما اوروبا جبانة وارتاحت بالتخلص من اليهود ولا تريد الانجرار في صراع معنوي او اقتصادي او سياسي معهم... ولا نهمل طبعاً الرأي القائل بأن الموقف الغربي من اسرائيل تحكمه الاسس الديمقراطية وهيمنة الصهيونية على ادوات التأثير على الرأي العام الغربي، وهذا اكثر وضوحاً في الولايات المتحدة الاميركية. مهما كان الجواب على السؤال عن اسباب التقصير الغربي في فرض السلام على اسرائيل، العرب عموماً لديهم قناعة تظهر يومياً بأن الحل لن يأتي بدون الغرب، وان الغرب يمارس الدور المطلوب منه على نار هادئة جداً حتى لا يبدو غير مهتم من جهة، وحتى تطبخ المتغيرات ويفرض الامر الواقع كحل من جهة اخرى، المهم للغرب ان أي انفجارات تحدث سوف لن تضر مصالحه... وهذا بالذات بعض ما يحاول العرب نفيه مؤكدين ان الانفجارات في هذا الجزء من العالم لا يعرف متى تأتي ولا أين تنتهي وماذا تصيب، وبالتالي قد تتضرر المنطقة والجوار الغربي.

من الجلي اننا ورغم كل الجهود الرسمية اليومية لم نفلح بعد في التوصل الى اتفاق واضح مع الغرب حول الحل وتطبيقه، فهم لا يريدون القفز عن دور الوسيط بين الطرفين العربي والاسرائيلي، هذه الوساطة (الاوروبية) جاءت بعد جهد جهيد واعتبرت اعتداء على دور الوسيط الاميركي، وما زالت اسرئيل غير موافقة اصلاً على منح اوروبا دور الوسيط معتبرة اياها منحازة للعرب وتطالبها بتنازلات اضافية قبل منحها دور الوسيط. اذا كان التدخل الغربي حتمياً على طريق التوصل الى السلام العادل فكيف نتوصل الى تفعيل الدور الاوروبي؟ لا يخفى على احد تفرق شمل الموقف العربي السياسي والاقتصادي ناهيك من العسكري، وهذا يحد من تأثير المطالب والرؤية العربية. هناك حاجة ملحة، لم تتحقق بعد، لموقف عربي ثابت ومعتمد على دروس التجربة للآن، ويتبعه حوار جدي مع الغرب على مستوى القيادات الاولى ويتم الاتفاق على حل وموعد واساليب تنفيذ، او طبعاً الاقرار بعجز التدخل الغربي... بدون ذلك سيتواصل الجدل والفشل وتستمر الازمة بكل مخاطرها الى عقود قادمة. الموقف العربي الثابت المعتمد على التجربة يجب ان يلغي فكرة ومبدأ المفاوضات الجزئية ويعود الى القرارات الدولية الاساسية التي اقرتها الدول الغربية في الامم المتحدة بداية من قرار تقسيم فلسطين وحق العودة والتعايش والتعاون. هذا الموقف يمكن ان يقابله أي مطالب غربية لصالح اسرائيل تسهل على الغرب فرض السلام عبر أساليب الضغط الاقتصادي والسياسي... يمكن للغرب ان يطرح أي مقترحات لضمان أمن اسرائيل وأمن الشعب الفلسطيني والدول المجاورة طالما ان الهدف هو تطبيق القرارات بمراقبة دولية ومرجعية تنفيذية مضمونة. لقد كان مؤتمر مدريد خطوة صحيحة في ذلك الاتجاه، ولكن عُرف ان اسرائيل ارادت المماطلة لعشر سنوات في التفاوض، وعندما عطل اوسلو مدريد ماطلت اسرائيل لعشر سنوات كما نرى... في الواقع ان افضل ما يمكن ان يتفق عليه العرب الان وحتى لا يتورطوا مجدداً في اوحال المفاوضات هو اقناع المجموعة الاوروبية بفرض الانتداب على فلسطين بحدود قرار التقسيم والتعامل مع اسرائيل لتطبيق ذلك القرار الواضح الحاسم لكل المشاكل حتى في شكلها الحالي. ان مسؤولية الدول الاوروبية عن الكارثة التي حلت بالفلسطينيين تبرر المطالبة باعطاء المجموعة الاوروبية حق الانتداب على فلسطين وتنفيذ القرارات الدولية المعطلة والتمهيد لاقامة دولة في حدودها الدولية بعد عقد او اثنين من الزمن، وذلك كجزء من التعويض عما ألحقوه بالشعب الفلسطيني. المطالبة بالانتداب الأوروبي لفلسطين لا يضير الشعور القومي الفلسطيني كون السلطة الفلسطينية الآن عملياً تحت النفوذ الاسرائيلي وتعيش من الدعم الاوروبي والعربي والافضل انهاء الاحتلال وتسليم الادارة والامن والاقتصاد للاوروبيين، خصوصاً وان تجربة الادارة الفلسطينية فشلت تماماً في السنوات الاخيرة وعلى كل الصعد ولا يضر الشعب الفلسطيني تجديد كوادره ومعارفه باشراف وحماية اوروبية ودولية.

نعرف مسبقاً ان اوروبا سترفض اخذ الانتداب على فلسطين، لكننا بالفعل بحاجة لاطروحات جذرية جديدة تبعدنا عن هرطقات عملية التفاوض الحالية من اوسلو حتى ميتشل، ونحن بحاجة الى توافق واضح على اسس معترف بها مع الغرب، هل هم مع القرارات الدولية ام لا ؟ هل هم على استعداد لدعم السلام عبر الضغط المعنوي والاقتصادي على اسرائيل أم لا؟ اذا كانوا يتشككون في العرب ويصدقون اسرائيل بأنها تريد السلام والأمن، فلماذا لا يقبلون الانتداب على فلسطين ضمن الحدود التي فرضوها للدولة اليهودية وجارتها العربية وبدون رصاصة عربية واحدة في الدولة ومع وجود جيوش اوروبية لأطول فترة يريدون؟ ان البديل عن الانتداب الاوروبي على فلسطين هو ان تعترف الدول الاوروبية بمسؤوليتها عن الكارثة الفلسطينية وتتحمل النتائج وتنشط للحد من الخسارة وتعويض هذا الشعب.