احتواء عرفات لمطالب شارون المخادعة يفتح له أبواب البيت الأبيض

TT

كثر الحديث عن ارسال مراقبين دوليين للمساعدة في وضع حد للصدامات ما بين اسرائيل والفلسطينيين. وكان بيان الدول الصناعية الثماني (بما فيها الولايات المتحدة) اعاد احياء الاقتراح الذي ينادي به الفلسطينيون منذ اشهر.

يطالب الفلسطينيون بأن يقر مجلس الامن ارسال قوة دولية من الفي جندي لحماية المدنيين الفلسطينيين، في الوقت الذي تقاوم اسرائيل نشر مثل هذه القوات خوفا من تدويل الصراع ولأنها تعتبر ارسالها تدخلا خارجيا في شؤونها قد يعقد الاوضاع اكثر. وكانت الولايات المتحدة والامم المتحدة اشارتا سابقا الى انه لن يتم تشكيل قوة لحفظ السلام وارسالها من دون دعم وموافقة اسرائيل.

الاقتراح الاخير بارسال مراقبين عسكريين غير مسلحين عملت عليه روسيا وفرنسا وبريطانيا منذ بدء الانتفاضة الثانية، وستكون مهمتهم مراقبة ما يجري من احداث عنف، ومن ثم مراقبة وقف اطلاق النار والربط ما بين قوات الامن الاسرائيلية والشرطة الفلسطينية.

لكن، وجود قوة مراقبين دولية لا يعني بالضرورة وضع حد لاعمال العنف المتبادلة المتأججة حاليا، اذ تم نشر 150 مراقبا اوروبيا غير مسلح في الخليل بعدما شن المستوطن باروخ غولدشتاين هجومه على المسجد وقتل 29 من المصلين عام 1994، ولم يستطع اولئك المراقبون منع تدهور الاوضاع منذ ذلك الحين.

ايضا عام 1982 كانت هناك في جنوب لبنان قوات طوارئ لحفظ السلام ولكنها لم تستطع شيئا عندما قرر وزير الدفاع آنذاك ارييل شارون تنفيذ الغزو.

ورغم الاهتمام ببيان الدول الصناعية الثماني و«الترحيب» بالمشاركة الاميركية رغم الشروط التي تلت تلك الموافقة بضرورة موافقة الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، على نشر المراقبين، الا ان التقارير عن رغبة حكومة شارون بتدمير السلطة الفلسطينية واعادة احتلال الاراضي ما زالت تتدفق، بعد ان كان تقرير «فورين ريبورت» اول من اشار في عدد 10 تموز (يوليو) الى تفاصيل الخطة العسكرية، التي نفتها الحكومة الاسرائيلية يومها. ويبرر البعض ان تسريب تفاصيل الخطة كان محاولة من شارون للضغط على ياسر عرفات وعلى واشنطن لوضع حد للعنف القائم.

قد يكون عرفات غير قادر ـ او غير تواق ـ، من دون مكاسب سياسية، على وقف العمليات الانتحارية. والضغط الشاروني على واشنطن يقتضي من ادارة الرئيس جورج دبليو بوش التخلي عن سياسة عدم التدخل الا بمقدار محدد.

وتتعرض الادارة الاميركية للكثير من الانتقادات بالنسبة الى معالجتها الازمة الفلسطينية ـ الاسرائيلية، ويتهم حتى مسؤولون اميركيون الادارة بانها اخطأت عندما لم تحاول الضغط لتطبيق ما جاء في تقرير لجنة متشل، وقال احد موظفي الخارجية الاميركية: ان الادارة توحي وكأنها مهتمة بالعملية لمجرد الاهتمام فقط.

لقد نفى شارون وجود خطة لتدمير السلطة الفلسطينية، لكن تاريخه يدحض مصداقية نفيه الآن، ثم انه دعم سياسة الاغتيالات التي تقوم بها اسرائيل ضد الفلسطينيين الذين تشكك بهم. لكن قد يكون الاتصال الهاتفي الذي اجراه الرئيس الاسبق جورج بوش الاب بولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز، ليحاول شرح سياسة ابنه، الرئيس الاميركي الحالي، والتأكيد بانها غير منحازة او تحاول ممارسة ضبط النفس تجاه العدوانية الاسرائيلية، من بين الاسباب التي دفعت ادارة بوش الى التراجع عن موقفها بشأن ارسال مراقبين دوليين، لكن هذا التراجع لم يكن كاملا كما كان مرجوا منه، بل كما ذكرنا بشروط اميركية، تماما كما كان كولن باول وزير الخارجية وضع شرطا للاعتراف بوقف اطلاق النار وهو موافقة شارون عليه! من الاسباب الاخرى قلق واشنطن الجدي من احتمال ان يؤدي التصعيد الاسرائيلي بالوضع الى ما لا تحمد عقباه. ويقول مصدر اميركي «انه على الرغم من القلق الدولي والاميركي فانه من المستبعد ان يصدر شارون الامر بتدمير السلطة الفلسطينية، فهو يضغط على عرفات وواشنطن بان الاوضاع على حافة الانفجار» لكن المصدر يستطرد: «قد يكون هذا اجراء مؤقتا، لا يلغي ان شارون، في ملفاته السرية، يبحث عن سبب لـ«تسوية» القضية الفلسطينية على طريقته»، ويضيف: «وفي الوقت الذي يظهر شارون استعداده لاعطاء عرفات وواشنطن فرصة اخرى لانهاء العنف، يدرك ان المشكلة لن تُحل ببساطة، وقد يكون مستعدا لشن هجوم عسكري شامل».

يبدو ان هذا ما يقلق وزير الخارجية الاسرائيلي شيمون بيريز الذي يحاول ان يكسب وقتا اضافيا لابعاد «شبح» الهجوم العسكري الذي ينوي شارون القيام به، باستلام مسألة المراقبين الدوليين ومناقشتها ومعرفة تفاصيل مهمتها، وهل ان المراقبين ستكون مهمتهم Monitoring وهي مقبولة اسرائيليا او Obeserving المرفوضة اسرائيليا، لان المراقبين يكتفون بكتابة تقارير عما يجري، اما المتابع Observer فانه لا يستطيع ملاحقة انتحاري، كما يقول بيريز ويضيف: انه لا يعرف ان الانتحاري موجود، وهل تسمح حركة حماس لـ«المتابع» الدولي بان يدخل مقر قيادتها او مقر الجهاد الاسلامي؟

ولكسب الوقت اشار بيريز الى ان اسرائيل ما زالت بانتظار الاقتراح وتشكك في ان يكون لدى واضعي البيان خطة لذلك، ومع قوله بان اسرائيل تملك حق النقض الا انه تمسك بقول باول ان نشر المراقبين لا يتم بالقوة وان كان يفضلهم اميركيين ومن جهاز السي. آي. ايه.

كل هذه التفسيرات جزء من شخصية بيريز التي تميل الى النظريات وتصر عليها خصوصا في مرحلة وجوده في حكومة يرأسها «التطبيقي» شارون، فهو في قرارة نفسه يشعر ان لدى شارون استراتيجية ينتظر الفرصة ليحققها.

العارفون يقولون ان بيريز في حالة احباط، والصحفيون البريطانيون الذين التقوه الاسبوع الماضي في لندن يؤكدون ذلك، خصوصا انه لا يملك ما يقنع به عرفات بضرورة كبح مقاتلي حماس والجهاد الاسلامي، ولذلك يقوم بجولات على العالم للضغط على عرفات للالتزام بوقف كامل لاطلاق النار، في حين ان مصادر عرفات بدأت تسرب عن احتمال تشكيله حكومة وحدة وطنية مع حماس. (قد يكون هذا غير صحيح لان اصطدامات وقعت بين الشرطة الفلسطينية ومقاتلي حماس والجهاد الاسلامي اول من امس الثلاثاء).

الاسبوع الماضي وبعد ممانعة طويلة وافق شارون على ان يلتقي بيريز بعرفات في القاهرة، ويتخوف بيريز من ان حرية الحركة التي يوفرها له شارون سيكون لها ثمن بأن يقول له شارون: لقد جربنا الحل على طريقتك والآن اريد دعمك لطريقتي او بالاحرى خطتي العسكرية! حول هذه المعادلة يقول مصدر اوروبي ان شارون يعرف ان بيريز يملك ورقة ضغط واحدة وقادر على لعبها مرة واحدة، وهي ورقة الاستقالة من الحكومة، لانه اذا استقال فان التوافق الداخلي كله ينهار وينهار معه كل الدعم الدولي الذي تتمتع به اسرائيل حاليا. انها ورقة قوية وشارون مهما حصل يريد بيريز الى جانبه، ومشكلته ان بيريز لا يريد ان يكون شريكه في عملية عسكرية، قد تبدأ صغيرة انما لا احد يعرف نهايتها، لقد تعلم بيريز الدرس من الحرب في لبنان.

العارفون يقولون ان هناك تناقضين في سياسة شارون. الاول، انه لا خطة لديه، وما نراه هو شارون الجديد الذي يريد اعادة تأهيل نفسه بأي ثمن في عيون الاسرائيليين والمجتمع الدولي، والثاني هو انه من الصعب تغيير شخصية رجل بلغ الثالثة والسبعين من العمر، وان شارون ما زال يؤمن بامكانية حل مشكلة سياسية بوسائل عسكرية، وانه وعرفات يريدان الشيء نفسه: ضربة اسرائيلية عسكرية! عرفات يريد الضربة الاسرائيلية لانه يريد تدويل الصراع، وشارون يريدها لانه ما زال يؤمن بخطته لتقسيم الضفة الغربية الى 8 كنتونات منفصلة، من دون اي ادارة حكومية مركزية تؤدي بالتالي الى انهيار اتفاقية اوسلو وتصفية السلطة الفلسطينية. وما تعلمه من دروس الماضي هو في ضرورة كسب التوافق الداخلي العام والدعم الدولي، قبل ان يتحين الفرصة لتنفيذ خطته! ويشير العارفون الى ان شارون يتخبط بين هذين التناقضين، فمن جهة يمنع الجيش من شن غزو او هجوم، ومن جهة اخرى يشترط للبدء بالعد التنازلي للايام السبعة لوقف اطلاق النار، هدوءا تاما، وهذا مستحيل.

المقربون من بيريز ينقلون عنه أنه لاول مرة لا يرى ضوءا في نهاية النفق، وانه يشير الى ان الوضع الحالي يذكره بالوضع في شهر ايار (مايو) 1982 في لبنان، حين كان هناك هدوء معقول ومقبول، لكن وزير الدفاع شارون انتظر تلك الرصاصة التي انطلقت على السفير الاسرائيلي في لندن لينفذ خطته، العملية المؤقتة، التي استمرت 18 سنة! خلال زيارته الى المانيا، سأل المستشار الالماني غيرهارد شرودر ووزير خارجيته يوشكا فيشير رئيس الوزراء الاسرائيلي عما اذا كان انهيار السلطة الفلسطينية سيدفع بحماس الى السيطرة الكلية على الشارع الفلسطيني، وسألاه ما اذا كان من مصلحة اسرائيل ان يكون «طالبان» عرب على حدودها؟ ويبدو ان شارون لم يتأثر لانه لا يريد لاي احتمال ان يعرقل خطته المبدئية وهي نسف اتفاقية اوسلو، ولهذا السبب حوّل شارون ما جاء في تقرير لجنة ميتشيل ووثيقة تينت (رئيس السي. آي. ايه جورج) وشروط وقف اطلاق النار، الى كرات يتلاعب بها كما يريد طالما ان ليس هناك من يضرب على الطاولة، خصوصا من الاميركيين، قائلا: لقد بدأت فترة التهدئة التي سيليها استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.

قد يكون المجال مفتوحا امام شارون لان اليسار الاسرائيلي في حالة ارتباك، ويغطي اليسار ارتباكه بانه ليست لدى شارون استراتيجية واضحة، بعض وزراء اليسار يرفض استئناف المفاوضات في ظل النيران الفلسطينية ويطالب بالعودة الى اتفاقية اوسلو! لكن احدا غير مطمئن الى ما يمكن ان يحدث قريبا، ويقول العارفون ان شارون صحب معه الاسبوع الماضي بيريز الى اجتماع نواب الليكود في الكنيست، وعندما حان موعد الاجتماع، غادر شارون القاعة تاركا بيريز وحده. مثل هذه اللحظة يتخوف منها بيريز، عندما يقرر شارون ان موعد الضربة العسكرية حان، فهو عكس وزراء اليسار متأكد بان لدى شارون استراتيجية مشابهة تماما لتلك التي تسلح بها في حزيران (يونيو) 1982.

مصدر اميركي لا يستبعد انفجارا كاملا للوضع بعد اربعة اسابيع، ويقول ان الادارة الاميركية غير قادرة الآن على عمل اي شيء باستثناء ما يسمى بـ«ادارة الازمة»، ويتمنى لو ان عرفات يساير مطالب شارون المخادعة بتوفير فترة هدوء تؤدي الى مفاوضات جدية، «لأنه اذا اقدم على هذا يمكنه عندها زيارة المكتب البيضاوي وسيحصل على دعم الولايات المتحدة له بتجميد المستوطنات.. المشكلة ان عرفات كما يبدو يفضل انتظار مجيء حكومة جديدة في اسرائيل»!