سيدتان ومخاوف ومعركة بقاء

TT

هناك قضيتان: الاولى، والاكثر اهمية وخطورة وابعادا وانعكاسات هي اندونيسيا، او التجربة الاندونيسية في الوجود، كأكبر جمهورية اسلامية في الارض، كأكبر تجمع جغرافي في الجزر، كأكبر تجمع قبلي، حوله الاستعمار الهولندي الى مستعمرة واحدة من اجل استغلاله، فإذا به يتحول الى تجمع مستقل، قادر على الحياة والاستمرار والتوافق، الى ان اهتز كل شيء مع عبد الرحمن واحد.

القضية الثانية، هي قضية استسهال الانجراف نحو الفساد عند سياسيي اليوم، وتبسيط السطو على المال العام، وزوال ثقافة الضوابط والنواهي. فقد بدا عبد الرحمن واحد، الضرير، المتقشف، الذي يتزعم اكبر جماعة دينية في البلاد، بدا الرجل المثالي للخروج من المرحلة السوهارتية وآثارها. اذ يكفي انه يتزعم منذ سنوات 25 مليون مواطن في مؤسسة واحدة لكي يحقق المصالحة الكبرى. ففي عهد سوهارتو الذي وصل الى السلطة يجر خلفه نحو 500 الف جثة على الاقل، ظلت الظلامة الوطنية مخبوءة، وحالت الديكتاتورية دون الحوار، ومنع الحكم التوتاليتاري ظهور الكفاءات والمواهب ولئمت الجروح على دمل كثير. لكن اسوأ معالم العهد وعلاماته، كان الفساد العلني الذي رافق التسلط السياسي. فقد الغى سوهارتو كل ارادة ليفرض مشيئة الحاشية ويبسط توغلها في كل رغيف. وشكل مجيء بحر الدين يوسف حبيبي من بعده فرصة انتقالية جيدة، لكن الاندونيسيين لم يطيقوا فكرة ان يكون اقرب الناس الى سوهارتو هو ايضا المغيِّر، فاستعجلوا ذهابه. واصبح الخيار بين عبد الرحمن واحد وميغاواتي ابنة احمد سوكارنو، بسبب قوتهما السياسية في البلاد، فاختير من بينهما الرجل، لكي لا تصبح اكبر دولة اسلامية برئاسة امرأة ولو كانت لها من الظروف المؤاتية وميزات السيرة، ما كان لبنازير بوتو في باكستان، حيث ورثت الابنة اسطورة الأب، الذي خلعه هو ايضا، مثل احمد سوكارنو، انقلاب عسكري، بداعي الخوف من الشيوعية وبالادعاء انه كان قريبا منها، وهو امر نفاه طويلا فيما بعد.

انتهت اوجه المقارنة: ذو الفقار علي بوتو حُجّم واحمد سوكارنو حُجّم. بوتو سيرة وفكر وحلم وسوكارنو شيء آخر. لكن ليس هذا الآن وقت المقارنة وان كانت مغرياتها وعناصرها كثيرة: المرحلة الاستقلالية الواحدة، الطابع الاسلامي لاثنتين من اكبر دول آسيا، الدور الذي لعبته كل منهما في الحرب الباردة والصراع الاميركي ـ السوفياتي، وخيار بوتو وسوكارنو بالانتماء الى «عدم الانحياز» وهو السبب الحقيقي الضمني الذي اطاح الاثنين.

في اي حال، بدا عبد الرحمن واحد، الحل النموذجي المتوافر: معه تستطيع ميغاواتي ان تكون شريكة في الحكم من دون ان تكون رئيسة على البلاد. ومعه تمكن محاكمة سوهارتو واستعادة نحو 40 مليار دولار سرقت خلال 30 عاما، ومعه تمكن اعادة بناء البلاد وعقد المصالحة ووقف الموجات الانفصالية المتزايدة. حدث عكس ذلك كله تماما: سوهارتو اتهم لكنه لم يحاكم. وطلب منه ان يرد 8 مليارات من اصل 40 او 60 فلم يردها. وادخل ابنه السجن من الباب فهرب من الشباك. اما الحركات الانفصالية فارتفعت حدتها وكذلك الحروب العرقية المحلية. واثّر ذلك كله على سمعة الجيش والمؤسسة العسكرية التي تدعم الحكم، وارغم وزير الدفاع على الاستقالة، فاستقال لكي ينصرف الى تأليف... الاغاني. على ان اسوأ من كل ذلك، في منظور الحكم والدولة، كانت الفضائح التي بدأت تنكشف من حول الضرير المتقشف. وبدأت اندونيسيا تتحدث علنا عن كمية ضخمة من المال ذهبت الى الرجل الضرير و... مدلكه! ولم يواجه واحد التهمة بالنفي بل بالاعتذار. واخذت صورته تتهاوى كحاكم وتنهار كرجل نزيه ومتعفف. وثمة امر اسوأ من كل شيء قد حدث. فبعدما اخفق الاعتذار واخفق الجيش في مواجهة الاضطرابات المتكاثرة، لجأ واحد الى جماعاته يطلقها في وجه المتظاهرين والمعترضين، كما لو انه يشعل حربا اهلية لم تكن تنتظر سوى عود الثقاب.

كان واضحا ان التخبط العشوائي على هذه الطريق، سوف يوصل الاعشى الى العزل، ويوصل ميغاواتي الى القصر. لم يكن هناك طريق ثالث. فالاقتصاد الاندونيسي لم يتوقف عن النزف منذ الانهيار الاسيوي الكبير عام 1998. وقد ازداد النزف وتصاعد طوال 21 شهرا من حكم عبد الرحمن واحد. وتوسعت حركة التمرد ضد جاكرتا وسلطتها من أتشه الغنية بالنفط على الطرف الشمالي من سوماطرة الى جزر البهارات في الشرق. كذلك توسعت دائرة الفقر لتشمل عشرات الملايين في بلد من 225 مليون نسمة ينتمون الى مناشئ حضارية مختلفة، او شديدة الاختلاف. وكان ابرز او اشد معالم هذا الاختلاف، محاولة فرض اهل جاوا على المناطق الاخرى، كما فعلت موسكو السوفياتية عندما حاولت توزيع الروس على الجمهوريات الاخرى. فقد نقل ملايين المهاجرين من جزيرة حاوا المكتضة الى المناطق البعيدة لكي يتوزعوا بين ثقافات وعادات غريبة. وقد ادى التذمر من الهجرة الجاوية او (الجافية) الى نشوء حركة الانفصال في اتشه والى المذابح الاثنية الرهيبة في بوريتو الوسطى، حيث شاهدنا على التلفزيون الفؤوس والمناجل ترفع في الهواء بالاضافة طبعا الى الحرائق التي ادت الى تهجير الالاف في الشاحنات امام اعين الجيش.

يترك عبد الرحمن واحد وبحر الدين يوسف حبيبي واحمد سوهارتو، لابنة احمد سوكارنو، بعد هذه الدورة الطويلة من الحكم، تحديات مخيفة الاعداد والاحجام. وتقع كل هذه التحديات في مرحلة لم تعد فيها اندونيسيا دولة مفصلية مهمة للغرب كما كانت في الزمن الشيوعي والحرب الباردة. لذلك تقول «التايمس» ان جاكرتا قد لا تلقى من الغرب اكثر من تأييد شفهي فيما تواجه الرئيسة الاندونيسية مجمل هذه القضايا الصعبة.

يلعب القدر في آسيا لعبته في ثنائية غريبة. فقد ادى فساد الرئيس في الفلبين، دولة الجزر الاخرى، الى وصول نائبته ارويو، التي هي ايضا ابنة رئيس سابق. وتواجه الفلبين نوعا شبيها من المتاعب: من الجزر المتباعدة الى مخاوف الانفصال. ويعيش البلدان ازمة اقتصادية ذات طبيعة مشابهة ايضا، منذ انهيار 1998 الذي اطاح «النمور الاسيوية»، مرة واحدة. ومثل اندونيسيا، تبدو الفلبين وكأنها وصلت الى هنا، بفعل عقدين من ديكتاتورية فرديناند ماركوس المتميز بالطغيان والفساد. وكما انتهى سوهارتو طريدا في بلده انتهى ماركوس طريدا في اميركا التي منحته اللجوء السياسي معلقة فوقه كل انواع السيوف بحبال واهية من القطن.

دولتان من كبار دول اسيا في عهدة سيدتين: كلتاهما عاشت حياتها في سياسات البلاد ومناوراتها ومؤامراتها. كلتاهما اكثر خبرة سياسية من الرئيس الذي حلت محله. كلتاهما من اسرة سياسية. كلتاهما امام تحديات وطنية لم تعرفها البلاد من قبل. كلتاهما، لا امل لهما في العودة الى الاهمية السياسية الماضية، الا بقيام حرب باردة جديدة، هذه المرة بين اميركا والصين. لكنها حرب ترفض ان تقوم. والقواعد العسكرية الاميركية في الفلبين لم تعد ذات شأن كما كانت من قبل. واندونيسيا التي عقد فيها اول مؤتمر لدول عدم الانحياز في باندونغ واخافت اميركا، اصبح يستضيف مؤتمرها احمد سوهارتو ويضحك اميركا في سرها.

مع ابنة احمد سوكارنو، الذي اسس اندونيسيا المستقلة، تبدأ معركة الوجود الاندونيسي المستقل. وهو عبء هائل زاد في حمله فساد سوهارتو الكبير وفساد عبد الرحمن واحد المضحك.