عزلة أمريكا ستفقدها زعامتها

TT

يدرك قادة العالم اليوم أن شعوبهم ملّت القديم وتتطلع إلى الجديد وكأنما تصرخ في وجه كل واحد منهم مردِّدة ما قاله الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي قبل ستين سنة خلت:

سَئِمْتُ كلَّ قديمٍ عرفُته في حياتي إن كان عندك شيءٌ من الجديد فَهَاتِ كان الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق «جيمي كارتر» يَعِد شعب الولايات المتحدة الأمريكية بالجديد وركز عليه في حملته الانتخابية التي فاز بها بولاية واحدة تحت اسم «رجل التجديد». وتمثل جديده في تجديد أسلوب العمل السياسي الذي لا يمس جوهر السياسة في شيء، بحكم أن الحزبين الأمريكيين الرئيسَّيين المتعاقِبَيْن على تداول الحكم لا خلاف بينهما منذ نشأتهما على الخطوط العريضة الأساس للسياسة الأمريكية، سواء منها السياسة الداخلية أو الخارجية، مما يجعل أصول الثوابت السياسية تطغى على فروعها، وما يجعل كل تجديد شكليا أو حتى سطحيا فقط.

وانصرف «جيمي كارتر» من البيت الأبيض لا يُعرف عنه في مجال التجديد إلا «روتوشات» باهتة اللون لم تحدث تغييرا في اللوحة السياسية التي يمكن في جميع العصور وصفها بالجديدة القديمة في آن.

وأثناء الحملة الانتخابية التي تواجَهَ فيها الرئيس «جورج بوش» وهو في نهاية ولايته الأولى مع شاب مغمور آنذاك اسمه «بيل كلينتون» كان هذا الأخير يركِّز على التجديد الواعد، بينما كان الأول يستفزه بإحراجه بوضع أسئلة عليه في السياسة الخارجية لم يستطع «كلينتون» الجواب عليها إلى حد أن «بوش» واجهه بقوله: «إن كلبي يعرف في السياسة الخارجية أكثر مما تعرف». واستنتج أن «كلينتون» بجهله عاجز عن إدخال أي تجديد أو تغيير على السياسة الأمريكية، لكن الرئيس ظهر أمام العالم بصورة أخرى.

وإثر تولي الرئيس المصري أنور السادات خلافةَ الرئيس جمال عبد الناصر بعد رحيله أطلق الشعب المصري كعادته نكتة لاذعة تقول: «إن الرئيس السادات عندما ركب سيارة الرئيس الراحل التي كان يقودها نفس السائق سأل هذا السائق الرئيسَ الجديد قائلا: «إن الرئيس عبد الناصر كان يأمرني بأن أتجه جهة اليسار وأترك مؤشر الاتجاه مُحوَّلا وجهة اليسار حتى لو اتجهت السيارة جهة اليمين. فماذا تأمرني به فخامة الرئيس؟» فكان جواب السادات: «اتركه دائما موجها لليسار، ولكن «لُفّ» دائما إلى اليمين».

الرئيس «جورج ووكر بوش» وعد في حملته الانتخابية ـ كالمعتاد ـ بأنه سيُدخِل الجديد على السياسة الأمريكية، ولم يأمر سائقه بتغيير اتجاه المؤشر نحو اليسار، لأن المؤشر الأمريكي لا يؤشر إلا إلى اليمين، لكنه ظل يبحث عن سياسة جديدة في نطاق الاحتفاظ بقديم اليمين. وما يزال حائرا في اختيار نوع الجديد القديم الذي عليه أن يجده ليكون وفيا لوعوده الانتخابية.

ومن باب الإنصاف أن يعترف الجميع له بأنه يعرف في السياسة أكثر مما يعرف كلب والده، لكنه لا يحرز في تصوراته السياسية وتطبيقاتها تفوقا كبيرا.

ويظهر كذلك أنه يطبق ما تحكيه النكتة المصرية عن السادات، فهو يتابع التأشير إلى الجديد وهو يمضي على الطريق القديم ولكن بشكل آخر يمكن اختصاره في مقولة: «خالف تُعرَفْ». وفعلا فإن تراكمات أدائه السياسي جعلته ينفرد بمواقف سياسية جديدة يمكن نعتها بالغريبة إلى حد أن هذه التراكمات ألَّفتْ سجلا امتدت صفحاته بما أصبحت معه الولايات المتحدة تُخالف أكثر مما توافق، مما ضرب عليها سياج عزلة عن حلفائها وأصدقائها وداخل المجتمع الدولي.

وسياسة «خالِف تُعرَف» مقولة قديمة لكن الإدارة الأمريكية الجديدة تطبقها كمنهج للتجديد الذي أدخلته على الأداء السياسي الأمريكي، فهي إذن سياسة قديمة جديدة في آن واحد.

صدرت الإشارة الأولى إلى هذه السياسة عندما أعلن الرئيس «بوش» في أول خطاب له من البيت الأبيض «أنه لا يعتزم مطلقا أن يتَّبع سياسة سلفه إزاء عملية السلام في الشرق الأوسط. ولن يقوم برعايتها بالانغمار في أمواجها، بل سيظل يتابعها من الشاطئ طلبا للسلامة والنجاة»، و«أنه سيقف من النزاع موقف الحياد، لكن بانحياز إلى إسرائيل حليفة الولايات المتحدة الاستراتيجية مع تعاطف مع أصدقائنا في المنطقة» في إشارة غير واضحة الدَّلالة إلى الجانب العربي.

لكن مع مرور الأيام وتفاقم خطر الحرب التي شنتها إسرائيل على فلسطين والخوف على مصير إسرائيل، وتسابق الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين لملء الفراغ الذي خلقه انسحاب الولايات المتحدة من مسرح عملية السلام، اضطرت الإدارة الأمريكية إلى اعتبار أن انسحابها كان خطأ وعادت إلى أخذ مكانها في رعاية السلام بين القوات السياسية العظمى، لكن ظلت منحازة إلى إسرائيل وأقل ممارسة للضغوط عليها، وأشد ميلا إلى التخلي عن إحراجها، ولو في المظاهر الشكلية. أليس أن البيت الأبيض استقبل «شارون» مرتين وما يزال مُشيحا بوجهه عن الرئيس عرفات استجابة للرغبة التي أعرب عنها «شارون» في إقفال أبواب البيت الأبيض في وجه الرئيس الفلسطيني وكأنما رغبات «شارون» أوامر لا يجوز عصيانها؟

وما أكثر المواقف السياسية التي تميزت بها الإدارة الأمريكية الجديدة تطبيقا لمقولة «خالِف تُعرَف» وهي فيها تبدو لأول مرة مخالِفةً لحلفائها وأصدقائها التقليديين.

لم يحصل مع أية إدارة أمريكية سابقة أن اعتذر قائد سعودي كبير عن زيارة البيت الأبيض كما فعل ولي العهد الأمير عبد الله لأنه رأى أن الشروط غير متوفرة للقيام بها في الظروف الحاضرة، وأن من الأحسن تأخيرها إلى وقت لاحق لتكون زيارة ناجحة. ومرد ذلك إلى ما لاحظه سموه ولاحظه الجميع من انحياز الإدارة الأمريكية إلى الحليفة الاستراتيجية انحيازا أخلَّ بتعاطفها الموضوعي مع أصدقائها العرب المخلصين في صداقاتهم.

وللإدارة الأمريكية مواقف مخالفة للاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وأغلبية المجتمع الدولي في قضية اتفاقية «بروطوكول كْيوطو» التي أمضى عليها إلى الآن ما يناهز 60 دولة وامتنعت الإدارة الأمريكية عن الانخراط فيها غير عابئة باهتمام العالم بسلامة البيئة ومخاطر الاحتباس الحراري المتصاعد المهدد للإنسانية، حاصرة اهتمامها بالاقتصاد الأمريكي الذي سيكلفه نفقاتٍ إضافيةً انخراطُ الولايات المتحدة (الفقيرة) في الاتفاقية.

والرئيس «بوش» غير موافق على البرنامج الاستراتيجي الهادف إلى إقامة نظام عالمي دفاعي مشترك ضد مجهول مفضلا عليه إقامة درع دفاعي صاروخي كان يعرف باسم «حرب النجوم» لحماية بلاده، غير مقدِّر لما سيترتب على هذا البرنامج الأمريكي الأناني من دفع القوات النووية إلى التسابق إلى التسلح النووي من جديد بينما كان العالم يعتقد أنه انتهى بنهاية الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة.

وللرئيس «بوش» موقف مخالف لأغلبية المجتمع الدولي في قضية تحريم حمل الأسلحة الفردية الخفيفة أو ذات الأحجام الصغيرة Alpec التي يوجد منها في العالم 550 مليون قطعة، أي بنسبة سلاح لكل اثني عشر شخصا في العالم. وهي تقتل كل يوم ما يناهز ألف ضحية. وتدخل فيها أسلحة المسدسات والبندقيات والرشاشات.

ولأن بيع هذه الأسلحة التي تصنعها بكثرة الولايات المتحدة يُدِرّ عليها أرباحا طائلة فقد عارضت إدارة «بوش» أن تُبرَم على صعيد الأمم المتحدة اتفاقية تحريم اقتنائها وبيعها.

وبالنسبة لقضية مناهضة العولمة كان رد فعل «بوش» على مظاهرات مناوئيها قوله: «إن الأحسن لمناوئي العولمة أن يتخلوا عن معارضتها لأن الفقراء سيستفيدون ـ إذا ما أحسنوا الصبر ـ من تفاحش ثروة الأثرياء، لأنهم لا مخرج لهم من البؤس الذي يوجدون فيه إلا قبولهم العولمة». هذا بينما قال الرئيس جاك شيراك: «علينا أن نحاورهم ونهذب العولمة ونجعلها إنسانية أكثر».

عزلة الولايات المتحدة الأمريكية عن المجتمع الدولي ستفقدها زعامتها كقطب عالمي وحيد، وستغير أوراق اللعبة السياسية في المشهد السياسي الدولي لغير صالحها، وسيكون التجديد على طريقة مقولة «خالِف تعرف» تقزيما خطيرا لها يظهر أن الإدارة الجديدة غافلة عن تقدير عواقبه ومخاطره.