خمس قضايا للحزب الوطني الديمقراطي؟!

TT

ليس معتادا في العالم العربي الاهتمام بالمؤتمرات الحزبية السنوية باعتبارها نوعا من «المكلمة» التي تضاف إلى أنواع أخرى من «المكلمات» ربما تكون أكثر إثارة. وعندما يتعلق الأمر بالحزب الوطني الديمقراطي في مصر فإن أسباب عدم الاهتمام تكثر، حيث يحكم الحزب تحت أردية متنوعة، وحتى أسماء مختلفة، طوال العقود الخمسة الماضية. ومع ذلك فإن من لديه الرغبة في معرفة مصر لا يمكنه فعل ذلك ما لم يقترب من الحزب وما يجري داخله من تغييرات لأنه بصورة أو أخرى يحتوي على عينة ممثلة للتيارات السياسية المصرية المختلفة، بالإضافة إلى التغيرات الجديدة في البنية الاقتصادية والسياسية والفكرية المصرية خلال السنوات الأخيرة. ولمن لا يعلم فإن قاعدة الحزب اتسعت خلال العامين الأخيرين حتى بلغت العضوية ثلاثة ملايين نسمة تدفع اشتراكات منتظمة، وتشارك في تحركات حزبية زادت مؤخرا بفعل أن الشريحة العمرية من 18 إلى 40 سنة تمثل 65% من الأعضاء، وهم في العموم أفضل تعليما (6700 من الحاصلين على الماجستير والدكتوراه)، وبالتأكيد أكثر حيوية من أجيال سبقت.

وعلى أي الأحوال فإن هذا المقام ليس مخصصا للتطورات الجارية في الحزب وإنما للقضايا الملحة المطروحة عليه في الساحة السياسية المصرية، والتي لا تكشف حالة الحزب وحده بل أنها تكشف حال السياسة المصرية عموما وما يلح عليها من قضايا والتي قد تكون بشكل أو بآخر مطروحة في دول عربية أخرى، ولكنها ليست بنفس الصراحة والجدل الذائعين في مصر بشدة. وبالنسبة للمؤتمر المنعقد يوم السبت المقبل الأول من نوفمبر 2008 وحتى الثالث منه هناك خمس قضايا سوف تعرضها في شكل متقابلات فكرية مطروحة:

أولها المال والسلطة، أو السلطة والاستثمار، وأصل المسألة ذات طبيعة عالمية عندما طرح الفكر الاشتراكي سيطرة الرأسمالية على الحكم، وذات أصول مصرية عندما ورد في المبادئ الأساسية لثورة 23 يوليو «القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم». ولكن مياها كثيرة جرت تحت جسور الفكر العالمي، كما جرت مياه أكثر في النيل منذ ثورة يوليو، وبالنسبة للعالم أو لمصر ظهر أن القطاع الخاص، واقتصاد السوق، والرأسمالية في العموم هي الأقدر على توليد الثروة وحتى توزيعها. وربما وضعت الأزمة العالمية الأخيرة بعضا من التحفظات على ما سبق إلا أن النظام الرأسمالي أصبح يصدق عليه ما سبق أن قاله ونستون تشرشل عن الديمقراطية من أنها ربما تكون أسوأ النظم، ولكنه لا يوجد ما هو أفضل منها. ولكن حكمة تشرشل ليست معروفة كثيرا في مصر وهناك نقاش حاد منذ وقت طويل حول علاقة رأس المال بالسلطة السياسية بسبب وجود عدد من رجال القطاع الخاص في الحكومة، والتنظيمات العليا للحزب الوطني. ورغم أن مصر لا تزال مقيمة في كل التقارير الدولية من الدول ذات الاقتصاد المقيد، إلا أن الذائع داخل مصر هو أن الانفتاح الاقتصادي قد وصل إلى حدود قصوى وأن عائد التنمية لا يتم توزيعه بشكل عادل.

مثل ذلك يمثل تحديا بالغا للحزب الوطني الديمقراطي، فالحقيقة أن الواقع يختلف كثيرا عن ذلك، حيث يعمل لدى القطاع المصري غير الزراعي قرابة 14 مليون نسمة أجورهم تزيد كثيرا عن 7 ملايين آخرين يعملون لدى الحكومة، ويدفع 82% من ضرائب الدخل التي زادت حصيلتها زيادة عظمى، ويقدم القدر الأعظم من الصادرات المصرية. وخلال السنوات القليلة الماضية فإن القطاع الخاص المصري حقق ثورة كبرى في مجالات صناعات الصلب والسياحة والاتصالات والزراعة والتصدير وفوق كل ذلك في الإنشاء والتعمير جعلت معدل النمو يستقر حول 7% وباحتياطيات نقدية بلغت 35 مليار دولار وهو ما لم يحدث للخزانة المصرية منذ بناء الأهرامات. وبالتأكيد فإن صورة القطاع الخاص في مصر ليست وردية كلها، ولكن المؤكد أيضا أن الجانب الاستثماري للاستثماريين المصريين يعطي صورة مخالفة للمنحى القادم من المعارضة حول علاقة المال بالسلطة.

وثانيها قضية الخلافة السياسية وهل الحاكم فيها «التوريث» أو «الدستور»، فخلال السنوات القليلة الماضية أصبحت قضية التغيير الرئاسي في مصر مطروحة لأسباب متنوعة، وتعاملت صحف المعارضة المصرية، والعربية، وحتى العالمية، مع الحالة المصرية كما لو كانت مطابقة للحالة السورية رغم الفارق بين الحالتين. ولكن الحال في مصر لم يكن أبدا كذلك، فمنذ مولد الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي في عام 1805 فإن التقاليد والأعراف جرت على احترام الدستور أو القاعدة القانونية القائمة وقت التغيير وسواء كان التغيير مرتبطا بالوالي أو الخديوي أو الملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية. وعندما توفي جمال عبد الناصر على قامته العالية جرى انتقال السلطة كما كان محددا أيامها وفقا للدستور، وحتي عندما جرت فاجعة اغتيال الرئيس السادات لم تستدع الحالة على فداحتها تغيير القواعد السارية.

وثالثها القضية التي تدور حول نصف الكوب المصري الفارغ والنصف الآخر الممتلئ، فالمصريون مختلفون حول توصيف أحوالهم الحاضرة، ومنقسمون حول توزيع عائد التنمية، وعما إذا كانت الطبقة الوسطى تتسع أو تضمحل. والحقيقة أن بحر الأرقام عميق بالنسبة للطرفين، وبوسع المتشائمين أن يجدوا في أرقام المرضى والفقراء وازدحام المدن وكوارث القدر والفساد ما يبعث على التعاسة الدائمة، ولكن المتفائلين ليس لديهم فقط أرقام متزايدة حول اتساع الطبقة الوسطى وأنماط استهلاكها من الكهرباء والتليفون المحمول والسيارات، بل ومعها أرقام أخرى حول معدلات النمو وتغير أنماط الاستهلاك وأشكال المدن الجديدة، والقدرة على التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية بنظام للبنوك وشركات التأمين ليست صامدة فقط ولكنها مزدهرة وممتلئة بالسيولة.

ورابعها قضية كثيرا ما ينتقل إليها المتشائمون والمعارضون عندما تكون أرقام الحزب الوطني والحكومة متدفقة فيقال فورا إنه قد يكون هناك بعض ملامح التقدم في مصر، ولكن هذا التقدم لا يغير من الأمر شيئا ليس فقط لأن مصر لا تزال بلدا ناميا، وإنما لأنها متأخرة في السباق العالمي وهو ما تظهره التقارير الدولية المختلفة التي تضع مصر في معظم الأحوال في مؤخرة دول الوسط من حيث القدرة الاقتصادية والكفاءة الاجتماعية والديمقراطية السياسية. هذه القضية لا تركز على مقارنة مصر بنفسها، وإنما مقارنتها ببقية دول العالم، وهو معيار آخر لم يتعود عليه الحزب الوطني الديمقراطي ولكنه آخذ في تفهمه واستيعابه من ناحية، ومن جانب آخر أن تكون هذه التقارير الدولية دليل عملي لعمليات الإصلاح الاقتصادي الجارية كما حدث مع تقرير «إقامة المشروعات» الصادر عن البنك الدولي والذي تقدمت فيه مصر خلال عامين من المكانة 155 إلى 110، وهي مكانة لا تزال متدنية، ولكنها تعني أيضا أن مصر يمكنها القفز درجات إلى الأمام.

وخامسها قضية تصاغ دائما في إطار سؤال «إلى أين تذهب مصر؟»، وعما إذا كان مستقبلها مظلما أم مضيئا، حتى ولو لم يحدد أبدا معنى الظلمة أو الضياء حيث يبقى كلاهما ـ مثل الجمال ـ محفوظا في أعين الناظرين. ولكن الغموض لا يمنع قضية من الطرح بالضرورة بل أنه على الأرجح يبقيها ملحة بحثا عن الوضوح والتحديد. والمتشائمون يتراوحون ما بين الظلمة القادمة باعتبارها استمرارا للظلمة الحالية، وبين هؤلاء الذين يعتقدون أن الظلمة التي سوف تأتي سوف تكون حالكة بأكثر مما عرفته مصر في تاريخها. أما المتفائلون المسلحون دوما بالإنجازات القائمة، فإن ما يطالبون به لا يزيد عن فرصة الزمن التي تحقق التراكم الرأسمالي، ويدفع بالمصريين خارج الوادي الضيق، ويرفع من الاستثمارات التي عرفت طريقها إلي مصر من ملياري دولار عام 2004 إلى 6 مليارات في عام 2005 إلى 11 مليارا في عام 2006 إلى 13 مليارا في عام 2007، والسياحة التي كانت 4 ملايين دولار في مطلع القرن الحالي والتي بلغت 10 ملايين دولار قبل نهاية العقد الأول منه.

هذه القضايا الخمس ليست بقضايا الحزب الوطني الديمقراطي بالضرورة، ولكنها قضايا مصر كلها، وربما كانت لها صياغات متعددة في دول عربية أخرى. ولكن لمثل هذه القضايا توجد المؤتمرات السنوية، تعالوا نسمع ونرى ما الذي يجري في المحروسة!