الزوبعة المالية منعطف نحو مسارات جديدة

TT

من الآن نستطيع التكهن بأن الأزمة المالية الحالية في الدول الغربية ستفرز نتيجتين؛ الأولى هي بدء العودة فعلا نحو التعددية القطبية، والثانية هي إحداث تعديل مهم في مقولة قانون السوق، وصولا إلى التسليم بأن الدولة ما زال لديها ما تفعله لضبط الأمور.

فمن الآن يظهر أن أميركا لن تبقى منفردة بمسك عصا قيادة العالم. وها هي تذعن فتسلم بأنها لا بد أن تتعامل مع شركائها في الساحة الدولية، بروح الشراكة وليس بعجرفة من يعتبر أن من يرى ما لا تراه هي يضع نفسه عدوا لها. ولا ينبغي أن يذهب التفكير إلى حد تصور أن «أميركا انتهت» كما قيل بتسرع. إنها أزمة كبيرة أخرى، عليها أن تجتازها، بشيء من الصعوبة نعم، ولكنها ستجتازها بالمؤهلات التي يمتلكها كيان ناضج، ثبت من خلال تجربة تاريخية متميزة، أنه قادر على مواجهة اختبارات كبرى وعويصة، مثل الميز العنصري والحروب الخارجية ومآزق اقتصادية واجتماعية متعددة.

وهذا الإقرار بالميزات الأميركية ـ وهي تنفعها لنفسها، وليس صحيحا أن ما ينفع أميركا ينفع سائر العالم ـ أمر لا يتنافى مع القول إن الأحادية القطبية ربما تكون في النزع الأخير. أي أنه ربما تكون قد انتهت مدة صلاحية ذلك المنتوج الذي أطلقه بوش الأب في نشوة واعتزاز عارمين، حينما أعلن ميلاد نظام عالمي جديد في 1991. وكان قد تم الإعلان عن ذلك على نحو يفيد أن الولايات المتحدة قد أصبحت منذ تلك اللحظة مخولة لتتصرف بمفردها وبحساباتها في مصير العالم، بحكم «نهاية التاريخ»،

ورأينا كيف أن «المحافظين الجدد» أمعنوا بعد ذلك في طبع المسلسل الذي فتحوه منذ ثماني سنوات، بروح استبدادية. ونذكر أن أوربا إذ ذاك قد رفعت صوت المعارضة، من خلال صوت الوزير الشاعر دي فيليبان الذي حذر في مجلس الأمن من مغبة شن حرب، حدد لها بوش هدفا موهوما، هو تحطيم أسلحة دمار شامل، لم يكن له دليل على وجودها.

ومن عواقب تلك المعارضة أن البيت الأبيض يعترض اليوم على حضور إسبانيا في اجتماع العشرين، لأن ثاباطيرو ـ وهو بعد في المعارضة ـ لم يقف لتحية العلم الأميركي، أثناء استعراض عسكري في مدريد، احتجاجا ضد الحرب على العراق.

الآن يمكن أن يتراءى لنا أن الاجتماع الذي سينعقد لدراسة آثار الأزمة المالية الراهنة، يمكن أن يكون منعطفا نحو فتح مسارات أخرى في مجالات متعددة. فمنذ نحو عقدين فتحت مسارات جديدة مثل منظمة التجارة العالمية، والمحكمة الجنائية العالمية، كما ترددت أفكار عامة، ولكنها جد قريبة من التفاصيل، بشأن مراجعة أوضاع منظمة الأمم المتحدة، وتركيب هيئاتها المقررة. ومن جهة أخرى انتظمت اجتماعات مجموعة الثمانية بغاية تقريب المفاهيم بين كبار الفاعلين في الساحة الاقتصادية العالمية. وفي كل هذا كانت الولايات المتحدة تفرض تصوراتها. وحينما لم تستطع، فرضت على دول العالم بأن تسلم مثلا بأن الجنود الأميركيين مستثنون من المثول أمام القضاء إذا ما ارتكبوا جرائم حرب. والتعددية قائمة، وبعض مظاهرها محفوظة، ولكن أحد الأطراف يعطي لنفسه ـ استنادا إلى علاقات القوة ـ حقوقا، هي أكبر مما عند الباقين.

ولا شيء يمنع من التفكير في أن قبول أميركا بفتح الحوار مع الشركاء في السوق الدولية، يمهد لإقامة تعددية فعلية تكون ناتجة عن تفاوض، يؤدي إلى القبول بقواعد مسلم بها. أي ربما نكون من جديد، على أبواب «نظام عالمي جديد». بمعنى أن إعادة تركيب هيئات القرار في المجال المالي، قد تؤدي إلى تطوير مجموعة الثمانية، ومحافل أخرى سياسية واقتصادية وقانونية.

لقد عرفت العلاقات الدولية في العقدين الماضيين اجتهادات متعددة في سبيل ما عرف في ميدان الاقتصاد باللاتقنين. ولعلنا الآن ندخل في فترة إعادة صياغة الضوابط التي تحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الساحة الدولية، وجعل تلك الضوابط مطبوعة بالإنصاف. وقد تم في حظيرة الأمم المتحدة رسم مخطط عام في أفق الألفية الثالثة يرمي إلى الأخذ بسياسات تلتزم بها الحكومات الأعضاء في المنتظم الدولي، وذلك بغية تقريب الشقة بين الدول الفقيرة وكوكبة الدول المتقدمة، وتقليص الفقر، وتوفير الخدمات الصحية الأساسية للمحرومين، أي ألا تبقى التنمية من ثمار نزوات السوق.

ولعل ذلك سيكرس «النتيجة» الثانية للأزمة المالية وهي التأكيد بوضوح أن دور الدولة لم ينته، وأن السوق ليس بقادر على أن يعالج نفسه بنفسه. وما ظهر صالحا في أميركا والدول الغربية الغنية هو أكثر صلاحية بالنسبة للعالم الثالث. إذ لم يكن بديهيا في أي وقت من الأوقات، أن السوق هي التي تحقق التنمية. ولا أدل على ذلك من أن المحافل الدولية انصاعت إلى التفكير في أنه لا بد من حكامة جيدة لكي تنجز تنمية مندمجة تشمل نتائجها أوسع فئات ممكنة.

ومرة أخرى ليس معنى هذا أن مقولة اقتصاد السوق قد فشلت، وأنه لا بد من عودة كاملة للدولة حتى تتحقق التنمية. الذي ظهر هو فقط أن الليبرالية المتوحشة هي الآفة التي ينبغي اتقاؤها. وقد سبق بمناسبة الأزمة الآسيوية، ثم بمناسبة الانهيار الأرجنتيني أن أدلى المستثمر والمضارب في البورصة صوروس نفسه، بأن عولمة السوق التي هي اختراع أميركي، وكانت أميركا هي المستفيد منها، قد أدت إلى كوارث بسبب الغلو في ترك السوق على هواها. وأضاف أن السبب كان هو «العقيدة» التي زرعها بوش وصحبه. وقال إنه كان قد أيد إطاحة صدام وضرب ميلوسوفيتش، ولكن من أجل إقامة عالم مفتوح وليس من أجل ما آل إليه الأمر بسبب سياسة بوش، وشارون.

ومن الصواب القول إن بوش ليس وحده الذي صنع الكارثة. فهذه هي بنت السياسات التي فرخت الفوارق الاجتماعية، وأشاعت القيم الاستهلاكية. والذين استطابوا ذلك هم قادة الدول المتأخرة الذين أصروا على أن تبقى بلدانهم متأخرة. وليس صدفة أن هناك ما لا يقل عن 180 غنيا جديدا في لائحة «فوربس» لهذا العام كثير منهم أتوا من أقطار فقيرة.

في لحظة ما حينما ساد التبشير بحسنات تقليص حجم الدولة، في غمرة إعطاء الاعتبار لقيم ومفاهيم اقتصاد السوق، كنا قد استبشرنا بان ذلك سيحرم أصحاب القرار في دولنا من استعمال القطاع العام لتشكيل بطانة طيعة، وتقديم مقاليد القطاع العام كرشوة لزبناء النسق السياسي القائم. كما تصورنا أيضا أن التخلص من القطاع العام سيخلص الدولة من الوزن المبالغ فيه للجهاز البيروقراطي، الذي يرتع فيه الطفيليون الذين يمتصون دم المالية العمومية. ذلك أن القطاع العام في نسخته القديمة كان قد أضحى إما إقطاعيات تمنح للقريبين من القرار، وإما هبات تمنح كرشاوى للطفيليات التي ترتع في الجهاز البيروقراطي الذي يستنزف أموال دافعي الضرائب.

إن تدخل الدولة يجب ألا يكرر نفس السلبيات التي من أجلها تم الارتياح للتخلص من القطاع العام المهترئ، ويجب ألا يعني إلا العودة إلي التخطيط، بمعنى وجود خارطة سير. وقد ظهر من خلال مسيرة الصين أي نتيجة تكون للإرادوية، ولوجود رؤية واضحة للذات وقراءة صحيحة للعالم.