مسيحيو المُوصِل: مَن الجاني؟

TT

دخل العرب المسلمون المُوَصْل فاتحين، سنة 20هـ، أو ما يقرب من ذلك، ووجدوها ممتدة على جانبي دجلة مدينتين أو حصنين: الشرقي وهو نينوى القديمة عاصمة آشور، والغربي وهو المُوَصْل. وبعد قتال، حيث كانت المنطقة تحت السيطرة الرومية، خضعت نينوى عنوةً. أما أهل الحصن الغربي فصولحَ أهله على الجزية (الكامل في التاريخ). وأهل الجزية بالأمس البعيد هم أجداد مسيحيي المَوَصْل اليوم، ظلوا في أرضهم، يزرعون ويعمرون القُرى والحواضر، وتُملا الخزائن من خراجها وجزيتهم، ونفعوا الدولة بسلالات من الأطباء والكُتاب، ولهم كنائسهم وأديرتهم، التي شيدوها قديماً ومازالت شاخصة لم تُنتزع منهم إلا في ما حصل اثناء الاجتياحات، أو ممارسة حاكم بلا لين تجاههم.

بعد هذا التاريخ الطويل، من الوجود المسلم والمسيحي على أرض المَوَصْل، يتعرض المسيحيون إلى محنة قل شبيهها عبر الألف والأربعمئة عام ويزيد، تمثلت في قلعهم من جذورهم، ومحو أثرهم من على أرض تنطق بلغتهم، وأكتسبت المدن والقُرى الأسماء منها. وعلى الرغم من قِدمها، وما مر عليها من العاديات، إلا أنها ظلت موسومة بها، معبرة عن معانيها: باعذرى: بيت العماد أو المساعدة. برَّطلة: بيت الأوزان. باحزاني: محل الرؤيا أو المشهد. باطنايا: بيت الطين. باشبيبا: بيت السبي. باعويرا: بيت العبور. باقوفا: بيت القضبان. باعشيقا: بيت المظلومين. هذا ما كان في دائر المَوَصْل، أما على امتداد العراق فقائمة الأسماء السريانية أو شقيقتها الآرامية وما تبقى من لغة بابل، تطول: البصرة (بيث صري: بيت الجداول) وبعقوبة: وبغداد، وبدرة، وبامرني، وبابل، وأكثر أسماء الحواضر والقُرى البادئة بحرف الباء.

من المؤكد لا تعني تلك الآثار، والوجود الضارب بالقِدم وما أقره الإسلام من حقوق لأهل هذه الديانة، الحاملين معاول التخريب والتدمير، من الضالعين في قتل وتهجير مسيحيي المَوَصل. ولا تشغلهم آصرة الحياة المشتركة عبر قرون من الزمن. ولا تردعهم آية قرآنية، ولا وصية نبوية. بل لا يرون في قتال المستضعفين، ممَنْ لا يجيد حمل السلاح: راهب متبتل، أو صبية ينشدون السلام تحت سقف كنيسة. لا شك أن الضرر فادح ليس على أتباع عيسى بن مريم، وعلى الموصل، التي ستشوه جغرافيتها السكانية وتاريخها الحضاري بل الضرر سيصيب الإسلام نفسه، كون الاعتداء قصد ميزة من مزاياه، ألا وهي ناموس الاعتراف بالآخر.

قضية تهجير المسيحيين من المَوَصْل ليس ككل القضايا، صحيح أن مقاتل وجولات عنف رهيبة سُجلت ضد مجهول، لكن في هذه القضية بالذات يحار لمَنْ يوجه أصبع الاتهام، أ لطرف سياسي، أم لجماعة دينية متطرفة أو معتدلة، وما عادت الفوارق مفهومة بين الاعتدال والتطرف أو الغلو.

وبطبيعة الحال، تزداد الحيرة حيرات، وتبقى الهواجس بين شاردة وواردة، في مثل هذه القضية. أهو طمع بالقُرى والأرض، وما يحيط بالأديرة والكنائس من زرع وضرع! وإذا صح ذلك فبئس الثمن والتفريط بجيرة وشراكة عمرها عمر الأرض والأديان! أم نزاع لبسط الدين الواحد أو المذهب الواحد على بلدة مختلطة، عبر تاريخها من عهد آشور فما أدنى! أم سبيل من سبل الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول، وإحراجها بتحويل الصراع عن مجراه إلى صراع أديان وحضارات، مع أن المسيحية المَوصْلية أو العراقية والشرقية ككل لا شأن لها بسياسات تلك الدول، ولا حتى لها صلة بما عُرف بالحملات الصليبية.

بل على العكس كان المسيحيون وأهل الأديان الأخرى من العراقيين، من غير السياسيين أو المحاربين، محميين من قبل الأنظمة السابقة، وهناك قوانين شرعت من قبل ضد الإساءة إلى كتاب مقدس أو بيت عبادة. ومعلوم، أن تلك الجماعات الدينية حريصة، وفي كل الأزمنة، ألا تلعب لعبة السياسة، فليس لها مطلب الرئاسة، بقدر ما تبحث عن المأمن لأتباعها على أرض تعدها مهداً، ومن الحكمة والعاطفة معاً أن يُحافظ على المهد.

لقد أعلنت الحكومة العراقية أنها ضد ما حصل لمواطنيها من المسيحيين بالمَوصْل، وأرسلت شرطتها لحماية قُراهم، لكن الهجرة مستمرة، واللائذون بالمدن الأخرى ها هي الأرض فراشهم والسماء دثارهم، ويبحثون عن طرق للهزيمة بالأرواح. كذلك ما زال الجاني مجهولاً لقضية كبرى في حجمها وخطورتها، حدثت في رابعة النهار، وخصت شعباً وديناً أساسيين من شعوب وأديان العراق. أقول: لا أهمية واعتبار للعدد، أو ما يُشار إليه بالأقلية والأكثرية، إنما للمواطنة، والتاريخ في المكان، والشراكة في عمرانه. لا أرى في هذه المصطلحات سوى تزهيد في ذلك الحضور، وجرأة على الإيذاء.

[email protected]