العراق.. إما هذا «الاتفاق» أو فراغ يملأه حراس الثورة

TT

كل هذه الضجّة المثارة حول الاتفاق الأمني الأميركي ـ العراقي، سببها أن إيران، التي تختطف العراق الآن، ومعظم المسؤولية على هذا الجانب يتحملها العراقيون أولاً، والعرب ثانياً، تريد تأجيل هذه «الصفقة» إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة التي من المقرر إجراؤها بعد أيام قليلة، التي تشير كل التقديرات إلى أن الفوز فيها سيكون إلى جانب الديمقراطيين، وأن الرئيس الذي «سيحتلّ»!، البيت الأبيض لأربعة أعوام قادمة، قد تصبح ثمانية، هو المرشح باراك أوباما.

لقد أثبت الإيرانيون، كنتيجة للانكفاء العربي وارتباك الأميركيين وسوء أدائهم، أنهم اللاعب الرئيسي السياسي والأمني في الساحة العراقية، ولعلّ ما يؤكد هذا أن طهران، بينما مفاوضات هذا الاتفاق غدت تقترب من اللمسة النهائية، باتت محجّاً للقادة العراقيين الفاعلين، وهذا لم يقتصر على قادة التنظيمات والأحزاب «الشيعية»، بل شمل رئيس البرلمان العراقي الدكتور محمود مشهداني، وشمل أيضاً حتى مسعود البارزاني، الذي يعتبر الأكثر تأييداً لإبرام هذه المعاهدة الأمنية مع هذه الإدارة الأميركية وليس مع الإدارة المقبلة.

وبالطبع، وكما هو معروف، فإن العمل السياسي مثله مثل الطبيعة، يكره الفراغ، لذلك فإنه لا تثريب على القادة العراقيين، حتى بما في ذلك الذين لهم ألف مأخذ ومأخذ على إيران، أن يذهبوا إلى طهران ليأخذوا المباركة أو الأوامر منها كلّ حسب توجهاته والتزاماته، فالعرب اختاروا أن يبتعدوا عن العراق وهو يمر بأخطر مرحلة مرّ بها على مدى تاريخه الطويل، بحجة عدم التدخل في شؤونه الداخلية، وكل هذا، وبينما الإيرانيون اغتنموا كل الفرص إلى أن أصبحوا الرقم الرئيسي في معادلة هذه الدولة العربية.

كانت إيران قد لعبت لعبة الدخول على معركة الانتخابات الأميركية في بدايات ثمانينات القرن الماضي عندما بقيت تحتفظ برهائن بسفارة الولايات المتحدة في طهران إلى أن حانت لحظة الحسم بالنسبة لهذه الانتخابات، فأعطت إطلاق سراحهم كهدية للمرشح الجمهوري رونالد ريغان، وعلى حساب المرشح الديمقراطي جيمي كارتر، الذي كان رشح نفسه لولاية جديدة، لكنه، لأسباب كثيرة من بينها هذه المناورة الإيرانية التي ارتدت لاحقاً على أصحابها، قد خسر خسارة مدوية كبيرة.

الآن يرى «دهاقنة السياسة» في طهران، أن المراهنة على هذه الإدارة الأميركية الراحلة لا تشبهها إلا المراهنة على حصان أعرج بات ينهار قبل نهاية الشوط، لذلك فإنهم يُظهرون كل هذا التشدد ضد هذا الاتفاق الأمني، فحصانهم الرابح هو باراك أوباما، وهم يرون أنه وحتى إن جاء الفوز إلى جانب جون ماكين، فإنه من الأفضل أن يبرموا صفقة العمر معه ومع إدارته الجديدة وليس مع جورج بوش الذي بات يحزم أمتعته لمغادرة البيت الأبيض والرحيل عن واشنطن والإقامة في مزرعته في «تاكساس» بعيداً عن السياسة وهمومها.

وعلى عكس هذا المنطق الإيراني الذي يستند إلى تدخل سافر حتى في أدقّ الشؤون الداخلية العراقية، وهذا هو سرّ قوته، فإن زعيم الأكراد مسعود البارزاني ومعه أكثرية صامتة من عرب العراق، يرى أنه من الأفضل للعراقيين ولمستقبل بلدهم أن يتفاوضوا مع إدارة أميركية منهكة وضعيفة باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وليس مع إدارة منتصرة منطلقة كالسهم المندفع في قوس مشدودة الوتر، لذلك فإنه يتخذ هذا الموقف المؤيد لهذا الاتفاق الذي يصفه بأنه أفضل الأسوأ ويقول إن العراقيين قد يضطرون للقبول بما هو أسوأ منه كثيراً إن هم أضاعوا هذه الفرصة وراهنوا على الإدارة الجديدة.

إنه لم يعد خافياً إلاّ على أعمى البصر والبصيرة، الذي يضع كفّيه فوق عينيه حتى لا يرى الحقيقة، أن إيران تسعى لنفوذ سياسي وأمني وأيضاً عسكري في هذه المنطقة يعيد لها أمجاد الأمبراطورية الفارسية القديمة، وأنها كانت مع استدراج الأميركيين ليغوصوا في الأوحال العراقية حتى يصبح بالإمكان إملاء شروطها عليهم، وإن هذا هو الذي يحصل الآن، وانه غير مستبعد على الإطلاق أن يقبل الديمقراطيون إن هُم جاءوا إلى الحكم بما بقي ليرفضه الجمهوريون، وأن يُسلّموا للإيرانيين بالدور الإقليمي الذي يسعون إليه مقابل صفقة أساسها العراق، وتشمل أفغانستان ولبنان والخليج ودولا عربية أخرى قريبة وبعيدة.

كانت إيران تعرف، عندما اتخذت ذلك الموقف المتعاون مع الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان أيضاً، أن الولايات المتحدة الدولة الأعظم والأقدر في العالم كله، ليست جمعية خيرية تدفع أبناءها نحو نيران الشرق الأوسط وتصرف أموال دافع الضرائب الأميركي من أجل عيون تخليص العراقيين من حكم استبدادي دموي متوحش واستبداله بديمقراطية جميلة وفقاً للمواصفات الغربية.. إن إيران تعرف هذا، لذلك فإنها عندما استغلت الغياب العربي وارتباك العراقيين وضياعهم وسيطرت كل هذه السيطرة على العراق، كانت تخطط لهذه اللحظة، وكانت تُدرك أن بلاد الرافدين هي البوابة الواسعة لتحقيق حلم الإمام الخميني، يرحمه الله، الذي مات وهو يحلم بتصدير ثورته إلى المنطقة العربية كلها وإلى الإقليم الشرق أوسطي كله.

هل أن المعمَّمين العراقيين وغير المعمَّمين أيضاً، يعتقدون أن الولايات المتحدة قد قدّمت كل هذه التضحيات التي قدمتها من أجل سواد عيونهم، وأنه بعد إسقاط صدام حسين ونظامه والتصدي لـ«القاعدة» وحركات الإرهاب والتطرف الأخرى، عليها أن ترحل خاوية الوفاض وتتركهم ينعمون بالحكم الذي جاءت بهم إليه على ظهور الدبابات الأميركية؟!..

ثم هل أن المعمَّمين العراقيين وغير المعمَّمين، يعتقدون أن إيران قد استغلّت ظرفاً كانت تحلم به، حتى قبل ثورتها، وحققت كل هذا الوجود العسكري والأمني والسياسي وأيضاً الديموغرافي في العراق من أجل عيون النجف الأشرف وكربلاء ووفاءً لدماء الحسين الشهيد رضي الله عنه، وأنها بعد القيام بهذه المهمة «الأخوية» ستتركهم وتنكفئ داخل حدودها.. وكفى الله المؤمنين شرّ القتال؟!..

بكل وضوح وصراحة، وهذا يجب أن يعرفه الذين يتظاهرون بالطيبة وبأنهم لا يعرفون أن أميركا قد جاءت إلى العراق في إطار استراتيجيتها الكونية، وعلى أنها الدولة الأعظم والقطب الوحيد في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا يفسره كل هذا الذي يجري في القوقاز وفي دول محيط بحر قزوين وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية ودول آسيوية كثيرة، وأنها لا يمكن أن تقبل من الغنيمة بالإياب وأن تترك بلداً خططت للمجيء إليه في خمسينات القرن الماضي، وهذا هو سبب التهديدات التي أطلقها في الآونة الأخيرة بعض كبار المسؤولين الأميركيين. إنها معادلة صعبة ومعقدة وخطيرة، فرحيل الأميركيين وخروجهم من العراق، بينما أوضاعه هي هذه الأوضاع غير المستقرة، وبينما معادلته الداخلية مهتزة كل هذا الاهتزاز، سيكون انتصاراً ليس للعراقيين، وإنما لإيران، وسيكون مدخلاً للانقسام والتقسيم والتشظي، لذلك فإنه يجب التعاطي مع مسألة «الاتفاق الأمني» بحذر وبمنتهى المسؤولية وبعيداً عن المزايدات والفنتزيّات الفارغة، وهناك مثَل يقول: «كالمستجير من الرمضاء بالنار»، والخيارات المطروحة حالياً في ظل ما هو قائم الآن، وفي المدى المنظور، هي: إما هذا الاتفاق مع تعزيز الجوانب الإيجابية فيه وتقليص مساحات الجوانب السلبية بقدر الإمكان، وإما فراغ لن يملأه إلا حراس الثورة وفيلق القدس، وإما صفقة بين طهران والإدارة الأميركية الجديدة يحقق من خلالها الإيرانيون حلم استعادة أمجاد أمبراطورية فارس القديمة.