طائفيون... بالمفرق

TT

نفترض ككل متابع للحدث السياسي اليومي في لبنان ان مطالبة اللواء عصام ابو جمرا بـ«صلاحيات» لنائب رئيس الحكومة اللبنانية ـ أي المنصب الذي يشغله حاليا في حكومة فؤاد السنيورة ـ نابع، أولا وأخيرا، عن شعور وجداني بان حقوق الطائفة الارثوذكسية في لبنان منقوصة ولا تستقيم الا باقرار الصلاحيات التي يطالب بها الوزير أبوجمرا.

ونفترض ككل مراقب للعبة الشطرنج الطائفية المزمنة في لبنان أن الطائفة الارثوذكسية ـ وهي من أكثر الطوائف ليبرالية في لبنان ـ مغبونة في معادلة المحاصصة المذهبية في التركيبة اللبنانية ومن حقها المطالبة بتصحيح الخلل اللاحق بها.

ولكن المشكلة تبقى في أن شكوى الطائفة الارثوذكسية تنسحب على كل الطوائف اللبنانية من سنة الى شيعة الى دروز إلى كاثوليك... وحتى على الطائفة التي خصصت الرئاسة الاولى لها، اى الطائفة المارونية، التي تشكو من «تهميش» دورها.

في نظر طبقة السياسيين المعتاشين على التركيبة الطائفية للبنان وبفضلها، كل الطوائف اللبنانية دون استثناء مغبونة، وإن بنسب متفاوتة، علما بان الطائفة الوحيدة المقهورة فعلا في لبنان اليوم، هي طائفة «اللاطائفيين»، أو، طائفة العلمانيين، التي لا تجد «فدائيا» مثاليا يطالب بحقوقها في إطار تركيبة هي براء منها.

والسؤال الذي يطرح نفسه على خلفية المطالبة «بحقوق الطوائف» عوض «حقوق الانسان» في لبنان، كائنا ما كانت طائفته، هو: إذا كان معظم سياسيي التركيبة الطائفية اللبنانية يشعرون بان طوائفهم مغبونة، وإذا كانوا مقتنعين بان الطائفية ـ وتفرعها الأحدث عهدا، المذهبية ـ تجارة رائجة ومربحة لهم، فقد يكون من رابع المستحيلات مطالبتهم بالتخلي عن هذه التجارة اليوم. وعليه يبدو أضعف الايمان التمني عليهم تحويلها من تجارة بالمفرّق ـ أو بالقطعة ـ الى تجارة بالجملة... أي أن يعملوا على تكريسها «بالجملة» لصالح الصيغة التي يعتاشون عليها ولصالح كل الطوائف اللبنانية فيعمدون، عوض المطالبة بحقوق طائفة واحدة على حساب طائفة أخرى، إلى المطالبة بتمثيل طائفي متوازن لجميع اللبنانيين ويتجنبون، على الأقل، تأجيج النعرات المذهبية وتحريض الطوائف الأخرى على المطالبة بالمثل، وتمديد حالة دوران اللعبة السياسة الداخلية في حلقتها المفرغة ـ إلا من الضغائن.

للوهلة الأولى قد يبدو هذا الطلب متعذرا. ولكن جل ما يحتاجه سياسيو التركيبة الطائفية لتحقيقه أن يتضافروا، ولو لمرة في العمر، في الدعوة الى تمثيل سياسي متساو لكل الطوائف اللبنانية لا يزيل شعور الإجحاف المشترك بين هذه الطوائف فحسب بل «يكافئ» أيضا سياسيي الصيغة الطائفية بمد عمر نظام التمثيل النيابي الذي «يزدهرون» في كنفه؟

لا حاجة للتذكير بان الخلفية الدستورية لنظام تمثيل طائفي متوازن في لبنان أرساها اتفاق الطائف نفسه بنصه على تشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه، بالتساوي، كل الطوائف اللبنانية. ولكن تطبيقه يقتضي اتفاق السياسيين اللبنانيين على المطالبة بنظام طائفي يؤمن قدرا مناسبا من المساواة بين كل الطوائف اللبنانية عوض السعي الى «تشليح» هذه الطائفة أو تلك بعضا من صلاحياتها ومواقعها.

مؤسف أن أفضل نص في اتفاق الطائف هو النص الذي تجاهلت تطبيقه جمهورية الطائف... ربما لأنه لا يخدم مصالح طائفية ضيقة بقدر ما يؤسس لمشاركة طوائفية متساوية في بناء الوطن الواحد ويعزز في الوقت نفسه التعددية السياسية في كيان جغرافي ـ اجتماعي لن ينقذه من التشرذم المذهبي، على المدى الطويل، سوى قيام الدولة اللاطائفية سياسيا، والعلمانية، أخلاقيا، في إطار صيغة ديمقراطية تحترم حرية المعتقد الديني لابنائها مهما كان هذا المعتقد. في لبنان ليس أفضل من التركيز على الجزئيات والتفاصيل وسيلة للتغطية على الأساسيات وتجاوزها.

وهذا ما يوحيه منطق العمل السياسي للعديد من ساسة لبنان ـ إن جازت تسميته بالمنطق. ولكن ما لا يدركه سياسيو التركيبة الطائفية ـ أو يدركونه أكثر من اللزوم ـ أنهم يفوتون، عهدا بعد عهد، فرصة بناء مؤسسة الدولة في لبنان.