العراق عند مفترق الطرق

TT

في العام السابق، تركزت النقاشات المتعلقة بالعراق حول مسألة فرص بقاء النظام الجديد. وساد اعتقاد بين العديد من الخبراء بأن العراقيين ـ والعرب بصفة عامة ـ غير مؤهلين لنظام الحكم التعددي، ورأوا أنه حال عدم العثور على ديكتاتور جديد لحكم العراق، فسوف ينهار البلد بأكمله. وعكف الكثيرون ـ منهم جوزيف بايدن الذي قد يصبح في غضون الأسبوع المقبل نائبا للرئيس الأميركي ـ على صياغة خطط تهدف إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات صغيرة أو أكثر، وذلك للحيلولة دون أن تصبح البلاد لاعبا إقليميا بالغ الأهمية تحت أي نظام.

إلا أنه في النهاية، ثبت خطأ هؤلاء الناقدين، ويبدو أن بايدن انصرف عن خطته الغبية تلك ـ على الأقل في الوقت الحالي. واليوم، ترتكز النقاشات بشأن العراق على أن الولايات المتحدة وقواتها الحليفة ستبقى بدعوة من الحكومة العراقية لفترة من الزمن.

وفي الأسبوع السابق، قدم المفاوضون العراقيون مسودة اتفاق بشأن وضع القوات إلى رئاسة الوزراء والقادة السياسيين الرئيسيين، كخطوة أولى تجاه عرضها على البرلمان للمصادقة عليها.

وقدمت صحيفة «الشرق الأوسط» للشعب العراقي خدمة كبيرة، بنشرها النص الكامل للاتفاقية المكونة من 31 بندا، لتمكن بذلك العراقيين، والآخرين المعنيين بمستقبل العراق من الحكم بأنفسهم على الاتفاقية. وكشف النص عن أن قدرا كبيرا من الدعاية القادمة من طهران ووكلائها في العراق والمتعلقة بالاتفاقية كان مبالغا فيها أو زائفة منذ البداية.

كما أن لدى الولايات المتحدة اتفاقيات مماثلة مع 90 دولة حول العالم، بما فيها المملكة المتحدة، واليابان. ومع إجراء مقارنة بين نص الاتفاقية المقترحة للعراقيين والنصوص المشابهة، التي وقعتها الدول الأخرى، سيتضح لنا أنها بعيدة كل البعد عن محاولة فرض أي شيء على العراق، فقد انحرفت الولايات المتحدة بعيدا عن نهجها التقليدي في مثل هذه الحالات، سعياً وراء التوفيق والتكيف مع الحساسيات العراقية. كما اتضح أن المزاعم الخبيثة الصادرة عن النظام الإيراني بأن هذه الاتفاقية ستحول العراق إلى قاعدة أميركية لشن العدوان ضد الدول الأخرى لم يكن لها أساس من الصحة. ومع ذلك، سواء كان يتعين على العراق دعوة القوات الأميركية للبقاء على أراضيه لعامين أو أكثر بمثابة قضية تبعث على الريبة والخوف أم لا، فإن هذه المسألة بحاجة إلى أن تتم مناقشتها بصورة تتميز بالعلانية والصدق. وفي الوقت الحالي، يدرك العراقيون حقيقة الاتفاقية. وبناء عليه، يمكنهم التغاضي عن الخطابات الصادرة عن طهران وحلفائها، من أمثال مقتدى الصدر وإبراهيم الجعفري، ونظرا لأنه لن يكون بمقدور لا الصدر ولا الجعفري ـ بعد الآن ـ تقديم إعلان مزاعمهم الكاذبة حول الاتفاقية أو اختلاق نظريات المؤامرة، فسيتعين عليهما مواجهة السؤال الحقيقي: هل يتعين علينا مطالبة الأميركيين بالبقاء، أم يتعين علينا مطالبتهم بالرحيل؟

وكان بإمكان رئيس الوزراء العراقي أن يبلي البلاء الحسن، إذا ما كان قد افتتح عملية المفاوضات بطرح قرار على البرلمان يمنحه سلطة التفاوض حول اتفاق بموجبه يمكن الولايات المتحدة من الإبقاء على وجودها العسكري في العراق، طالما أن الجانبين يرغبان في ذلك، ولكن هذا لم يحدث. ومع ذلك، يتعين أن تبدأ النقاشات بأسئلة بالغة الأهمية، ألا وهي: هل نريد أن يبقى الأميركيون؟ وإذا ما كانت الإجابة بالإيجاب، يتعين علينا حينها الانتقال إلى البنود الحقيقية للاتفاق. وهناك بعض القادة العراقيين ـ أبرزهم مسعود بارزاني الذي ساعد فن إدارته وحكمه، على إنقاذ البلاد من العديد من الأزمات ـ الذين اتخذوا موقفا واضحا حيال هذا الأمر: فهم يريدون أن تبقى الولايات المتحدة إلى جانب العراق طالما أن هناك حاجة إلى ذلك. وعلى هذا الأساس، يتعين على الباقين أخذ موقف على نفس الدرجة من الشجاعة، سواء كان لصالح أو ضد الوجود الأميركي.

وأي شخص مدرك لحجم الحساسيات العراقية الحالية، سيعلم أن غالبية العراقيين يرغبون في استمرار الوجود الأميركي.

فالأكراد يعلمون تماما أنه بدون الولايات المتحدة لم يكن بمقدورهم تأمين أو ضمان الاستقلال الذاتي الذي يتمتعون به الآن. كما أن عرب الشيعة أيضًا مدينون بشدة لوضعهم الحالي المسيطر على الحكومة، إلى الدعم الأميركي لغالبيتهم العددية بمختلف أنحاء البلاد.

فضلاً عن أن عرب السنة يدركون تماما أيضا أن الوجود الأميركي هو الذي حال دون استثنائهم كلية من نظام الحكم الجديد، وهو الشيء الذي يحدث دائما مع الأقلية الحاكمة في الشرق الأوسط حال تغير النظام.

ومع ذلك، فإن إغراءات الظهور بمظهر معاد للأميركيين قد أصبحت قوية للغاية بالنسبة للكثير من الساسة العراقيين بدرجة تتعذر مقاومتها. ففي هذه الأيام، أصبحت المشاعر المناهضة للولايات المتحدة هي الموضة أو السمة الغالبة في العالم بأسره ـ بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها ـ ويتضح ذلك في أن باراك أوباما ـ الرجل الذي أفنى شبابه كارها «للإمبريالية» ـ بات قريبا من انتخابه رئيسا للبلاد يوم الثلاثاء المقبل. إلا أن العراق لا يمكنه تحمل رفاهية معاداة الولايات المتحدة، فهو يواجه خيارا عصيبا هذه الأيام.

ومن بين الخيارات التي يواجهها، تمرير اتفاقية وضع القوات – مع إجراء بعض التعديلات إذا اقتضت الضرورة ذلك ـ والتأكد من أن الولايات المتحدة ستظل ملتزمة بالذود عن العراق حتى حلول عام 2011، أي بعد إجراء الانتخابات العامة المقبلة، وتكوين الائتلاف الحكومي القادم في بغداد. ومن شأن ذلك منح العراق الوقت الكافي لفرض الاستقرار في المؤسسات الجديدة، إلى جانب اعتياد نخبته الحاكمة على الشكل الجديد للسياسات بالمنطقة. أما الخيار الآخر فهو معارضة اتفاقية وضع القوات ومطالبة الأمم المتحدة مد تفويضها الحالي بشأن التحالف الذي تتزعمه واشنطن لعام آخر. ومن شأن هذا أن يطلق العنان لجميع البلايا والمصائب التي لا يمكن التحكم فيها. فبالتأكيد ستحاول الإدارة الجديدة في واشنطن وضع بصمتها على الأحداث.

فإذا ما تم انتخاب أوباما، فسيكون تحت ضغط شديد من مروجي الهزيمة داخل حزبه، لأن يقوم بكل ما يستطيع فعله لإظهار أن العراق يعتبر بمثابة كارثة، ومستنقع، ومصيبة وما شابه ذلك أوجدها الأخرق جورج بوش.

وإذا ما فاز ماكين، فمن المحتمل أن يرغب هو الآخر في اتباع نهج مميز عن سلفه بوش، وذلك من خلال تقليل الالتزام الأميركي أو فرض إجراءات مصممة لإظهاره على أنه شخص حازم وصارم. ومن هنا، من الممكن أن تفضي حالة الشك وعدم اليقين هذه إلى تقسيم النخبة السياسية العراقية، فسيحاول الكثيرون ـ ومن المحتمل أن تكون الغالبية الشيعية من بينهم ـ الظفر بالحماية الإيرانية. ومن شأن هذه الخطوة أن تضع نهاية العراق كدولة مستقلة، بل أنها من الممكن أن تؤدي إلى التمزق، في وقت تسعى طهران فعليا لبناء دولة شيعية منفصلة في وسط البلاد والمحافظات الجنوبية.

أما الخيار الثالث فيتمثل في التمثيل على المسرح الغوغائي الفوضوي حتى النهاية. وسيشبه هذا الموقف مشهد استمرار الأوركسترا الموسيقية في العزف، بينما تغرق السفينة تيتانيك، فبمقدور الساسة العراقيين الإدلاء بالخطابات المناهضة للأميركيين، واستخدام جل مواهبهم للخطب الرنانة البلاغية التي لا معنى لها. حينها سيرحل الأميركيون، وهم متعبون وضجرون من المشروع الذي لم يعد يحظى بتأييد شعبي في الولايات المتحدة.

إن العراق يقف عند مفترق الطرق، وهو في حاجة إلى قيادة حكيمة بعيدة الرؤية لتجاهل أحدث الصيحات السائدة هذه الأيام، والاتجاه إلى أخذ القرارات الصعبة الحاسمة لمستقبل البلاد.