مبادرات الملك عبد الله من الإنقاذ إلى النهوض والفعالية

TT

كان قد مضى قرابة الشهر على إعلان شيمون بيريز عن قبول المبادرة العربية للسلام، والتي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة ببيروت عام 2002 ـ عندما جدد عاهل المملكة العربية السعودية دعوته قبل عشرة أيام للقاء بين رؤساء العالم وكباره، بنيويورك، في رحاب الأمم المتحدة بين 12 و15 من شهر نوفمبر 2008، اكمالا من جهة للقاء مدريد بين الاديان والثقافات، ومتابعة من جهة أخرى لجهود معالجات الاختلال في النظام العالمي من الناحيتين الجواستراتيجية والمالية/الاقتصادية، بحضور القمة الاقتصادية هناك يوم 15/11/2008.

ومع أن أي حدث أو مبادرة لا يمكن ارجاعه لعامل واحد، لكن هناك علاقة غير مباشرة ولا شك بين مبادرة السعودية للسلام الشامل في الشرق الأوسط، وحدث 11 سبتمبر عام 2001، ذلك ان هجمات القاعدة التي جرت تحت شعارات مواجهة اسلامية، فجرت من جهة علاقات المسلمين بالعالم، وبرأس النظام العالمي بالذات، وأتاحت الذريعة لفرض حصار عالمي على العروبة والاسلام، وتصفية القضية الفلسطينية بإلحاق كل مناضليها بالارهاب الاسلامي الذي شنت عليه حرب عالمية! وجاء عبد الله بن عبد العزيز إلى مؤتمر القمة العربية ببيروت وقتها (وكان ما يزال ولياً للعهد)، وفي ذهنه أمران ضاغطان: فك الحصار عن القضية الفلسطينية بعد فشل المفاوضات الأخيرة، واندلاع الانتفاضة الثانية. ومحاولة انقاذ العراق، بعد اذ صار واضحا ان الاميركيين وضعوه على قائمة اولوياتهم بعد افغانستان. ورغم المماحكات الصغيرة للرئيس لحود لصالح تتويج الرئيس الجديد يومها بشار الأسد زعيما للعرب على حساب العراق وياسر عرفات (!) فقد أمكن للزعيم السعودي اجراء مصالحة بين نائب صدام وقتها (والذي ما يزال مختفيا حتى الآن وما أمكن للاميركيين القبض عليه) والكويتيين والعرب الآخرين، كما أمكن بعد جهد الحصول على اجماع على مبادرة عربية للسلام الشامل، تحاول استنقاذ فلسطين والفلسطينيين من براثن شارون وبوش ومحافظيه الجدد! وكان شارون أول المدركين لخطورة التكتيك السعودي، فقد رفض المبادرة مباشرة، وشن هجوما على الفلسطينيين في اليوم التالي، أعاد خلاله احتلال الضفة وغزة. وما قال الاميركيون شيئا في العلن. لكنهم دعموا خطوات شارون، وتابعوا استعداداتهم لغزو العراق. في حين تبسم الاوروبيون لحلم السلام هذا، الذي يطرحه الزعيم السعودي، وسط اندلاع الاضطراب في كل مكان، وحديث البوشيين والانجيليين عن دور السعودية في الارهاب! وما أمكن استنقاذ العراق ولا ياسر عرفات في النهاية، بسبب اصرار الولايات المتحدة واسرائيل، وتعذر الاجماع لدى الدول العربية، وسلوك ايران وسورية مسالك منفردة تجاه غزو العراق، وتجاه ما يجري في فلسطين. وكما هو معروف فإن الأمر انتهى بعد أربع سنوات بانقسام الفلسطينيين من جهة، وانصراف سورية للتفاوض بالانفراد مع اسرائيل من جهة ثانية.

وتأتي زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز هذه المرة الى الولايات المتحدة ثالثة بعد زيارتين سابقتين له الى هناك، ومجيء الرئيس بوش الى المملكة مرتين أيضا. في زيارة الملك الأولى لبوش تحدث معه عن الارهاب وضرورة العمل معا ضده، وعلى المستويين الثقافي/الديني والأمني. وتحدث معه أكثر عن القضية الفلسطينية، وأن هذا الدعم الذي يلقاه شارون من الولايات المتحدة، ومن جراء الصمت الأوروبي، سيزيد من الخسائر والخراب، وسينصر المتطرفين في صفوف الفلسطينيين. وتظاهر بوش بالموافقة على الطابع السلمي للاسلام، وان الذين قاموا بالهجوم على الولايات المتحدة والعالم الحر هم قلة شاذة، لكنه فيما يتعلق بفلسطين عبر عن شكوكه بعرفات، وانه ما عاد يصلح شريكا في عملية السلام! وفي الزيارة الثانية، صار بوش أكثر تواضعا بعد أن ظهرت متاعب «التمرد» بالعراق المحتل، وتحدث عن مقولته في الدولتين، وضرورة دعم اللجنة الرباعية وخارطة الطريق، اما في زيارتيه للمملكة فقد كان لديه انشغلان: ستر وجه الولايات المتحدة بالعراق، والمتاعب التي يحدثها ارتفاع اسعار النفط للاقتصاد الاميركي والعالمي. لكن في المرات كلها، وفي احاديث الاوروبيين والمسؤولين الدوليين، ما كان أحد مستعدا للحديث عن المبادرة العربية للسلام، بل ان سورية عللت انصرافها للتفاوض منفردة مع اسرائيل بتوسط تركي بأن ذلك انما كان بسبب الرفض الاسرائيلي للمبادرة العربية وعدم الحماس العربي لها.

وتابع الملك جهديه الاستراتيجيين في مؤتمر القمة الاسلامية بمكة على إثر توليه العرش، فكان هناك تأكيد على اظهار الوجه الآخر للاسلام، وتأكيد على المبادرة العربية للحل الشامل. وحصل الأمر نفسه في القمة العربية بالمملكة العربية السعودية. واضيفت في الحالات كلها هموم الانقسام العراقي، والانقسام الفلسطيني. بيد أنه في الوقت الذي بدأت فيه الآمال تلوح بإمكان الانفراج على الجبهتين العراقية والفلسطينية، بسبب الانكسار الاميركي، والعجز الاسرائيلي، أحبط ذلك العراقيين والفلسطينيين باشتداد الصراع فيما بينهم على السلطة، والسوريين بالسلوك التدخلي في لبنان والعراق وفلسطين بحجة المقاومة تارة وبدون حجة في غالب الأحيان ـ والايرانيين باختراقاتهم للحركات الثورية العربية والاسلامية بحجة هزيمة الولايات المتحدة، وازالة اسرائيل!

وخلال الاعوام 2006 ـ 2008 وإلى جانب عمله على السلام الشامل في الشرق الأوسط طور الملك عبد الله بن عبد العزيز رؤيته لاخراج الاسلام من الحصار، واستعادة الشراكة السياسية والثقافية والاقتصادية ضمن العالم المعاصر. وفي هذا السياق زار البابا بنديكتوس السادس عشر، على إثر تعرضه للاسلام في محاضرة بالمانيا عام 2006، قال خادم الحرمين الشريفين لأكبر مرجعية مسيحية في العالم ان المسلمين يريدون صداقة المسيحيين وأهل الديانات والثقافات الأخرى وانهم عانوا من الإرهاب باسم الإسلام، وباسم غير الإسلام، أكثر مما عاناهُ غيرهم بكثير. وتلت تلك الزيارة كلمة للملك أمام وفد ياباني، تخللتها دعوة للحوار بين الأديان والثقافات. ولكي تتهيأ الأرضية، ويوضح المسلمون رؤيتهم بهذا الشأن، دعاهم الملك، واستضافت علماءهم رابطة العالم الإسلامي بمكة، حيث أقبل زهاء الثلاثمائة عالم على صياغة «وثيقة مكة» للحوار مع الأديان والثقافات. ثم دعا الملك عبد الله المرجعيات الدينية والثقافية العالمية إلى مدريد، حيث رعى مع الملك الإسباني مؤتمرا عالميا لكل الديانات والثقافات الكبرى، صدرت عنه وثيقة تضع مسائل الشراكة في القيم والعقائد والثقافات والسياسات، في ضوء جديد. والوثيقة هذه دليل واضح على ما يحدثه التلاقح في الأفكار من التطوير وعلاج لمشكلات سوء الفهم من طريق التواصل والنقاش.

وعلى عتبة الخطوة الخامسة عمليا في هذه المبادرة الحضارية الكبيرة لتصحيح النظرة إلى الإسلام، وبالتالي تصحيح مواقع العرب والمسلمين في النظام العالمي، أظهر ساسة إسرائيليون على رأسهم رئيس الكيان الصهيوني، الرغبة في الأخذ بالمبادرة العربية للسلام الشامل، واتخاذها قاعدة للتفاوض. وليس من الواضح لماذا يفعل ذلك الإسرائيليون أو بعض ساستهم الآن. لكن يبدو أن الأمر جدي، وأنهم أدركوا أن خطوات السلام المنفردة انتهى أوانها. ولو أنهم قبلوا التفاوض بجدية وشمولية في مدريد، لما اضطروا للقتال في فلسطين على مدى عشرة أعوام، ولما كانت تجربتهم مع حماس، ولا صاروا مضطرين لأن يحسبوا حساباً لإيران وحزب الله، ولا أن يخافوا على الطابع اليهودي للدولة!. فالمبادرة العربية لا تقول أكثر مما تقوله القرارات الدولية، وتَعِد في حال السير بأمانة، بتطبيع لوضع الدولة العبرية في المنطقة. إنما المشكلة الآن في الزوال القريب للإدارة البوشية، والزوال القريب للحكومة الإسرائيلية، وعدم توافر الراعي الدولي لمؤتمر شامل مثل مؤتمر مدريد.

أما الملك عبد الله بن عبد العزيز فيحمل بين يديه المشروع والإمكانيات التي علينا جميعا نحن العرب أن نتعاون بقيادته لتحويلها إلى قدرات، وفي المجالين: مجال الشراكة: مجال الشراكة الثقافية والاستراتيجية في النظام العالمي، ومجال تحرير الأرض العربية بالسلام الشامل في الشرق الأوسط. والمجالان لا ينفصلان. فالسلام الشامل في الشرق الأوسط، يعني توازنا لصالح العرب بالمنطقة، وهو لن يتحقق إلا بالفعالية في النظام العالمي.